ينبغي أن نصدّق، ولا خيار آخر. فالتقارب السعودي - المصري قد يكون، بمجمل إيحاءاته وتفاصيله، بداية تصحيح للوضع العربي. ولعله بداية الخروج من «الخواء الإستراتيجي» العربي للدخول في وعي جديد للواقع والمستقبل. ففي نهاية المطاف، وبالنظر إلى ما سبق موجة «الربيع العربي»، وما تخلل حراكه، وما تلى إخفاقاته، لا بد من التعامل مع الممكن المتاح، لأن القعود والانتظار والتمترس وراء الخلافات والاعتماد على القوى الخارجية، لا سيما الولايات المتحدة، لا تصنع أي خيارات.

خرجت المملكة العربية السعودية من تقاليد «القوة الناعمة» حصرياً لتواكبها بنهج مواجهة عبّرت عنه «عاصفة الحزم»، وفي شكل أو في آخر أخرجت معها معظم دول مجلس التعاون الخليجي. لكن، قبل «العاصفة» تلك، كانت باشرت التغيير عندما دعمت بشكل صريح وغير مسبوق «ثورة 30 يونيو» 2013، بعدما نالت تأييداً شعبياً واسعاً في مصر، وقد ساهم هذا الموقف السعودي - الخليجي في تخفيف الضغوط الدولية على القاهرة. وقبل ذلك، كانت الرياض حاولت عبر «المبادرة الخليجية» تسهيل الانتقال السياسي في اليمن بحدٍّ أدنى من الضمانات للمحافظة على الدولة والمؤسسات، خصوصاً لتأمين الاستقرار في بلد ذي أهمية جيو - إستراتيجية لعموم الخليج العربي، إلا أن «أعداء الداخل» في اليمن شاؤوا وجهة أخرى للأحداث.

ومنذ منتصف 2013، بوشر الحديث خليجياً ومصرياً، عن شراكة إستراتيجية، وعن تصحيح التوازن الإقليمي، استكمالاً لنقاش عربي كان بدأ في العشيّة المباشرة للانتفاضات الشعبية وشابته مقاربات متناقضة بشأن تفعيل شراكات عربية مع قوى الجوار الإقليمي (تركيا وإيران وإثيوبيا). وبطبيعة الحال، لم يشمل أيٌ من الشراكات المفترضة إسرائيل، لأنها سيّجَت نفسها بجدار عنصري وتشدّدت في تصوّرها العدواني - الانعزالي لمستقبلها في المنطقة. ومع أن الدول الأربعة اندفعت، ولا تزال، إلى انتهاز مناخ التحوّلات العربي، إلا أن استغلالاتها تفاوتت وتدرّجت من مباشرة إثيوبيا بناء سدودها على مجرى النيل، إلى محاولتَين تركيتَين لاستثمار صعود تيار الإسلام السياسي عبر قيادة تيار «الأخوَنَة» ولاكتساب نفوذ في سورية، إلى سعي إسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية، وكذلك لاكتساب نفوذ ثابت في سورية، وصولاً إلى المشروع الإيراني «الإمبراطوري» و»عواصمه الأربع» العربية. وقد أضاف ظهور تنظيم «داعش» إلى هذه الأخطار، التي تفاقمت مع استخدامات القوى الدولية للإرهاب، في سياق ضغوطها على المنطقة.

على هذه الخلفية بكل تشعّباتها، وجب النظر الى مضمون زيارة خادم الحرمين الشريفين القاهرة، ورهانها المؤكّد والمتزايد على مصر موقعاً ومكانةً ودوراً. وكان الملك سلمان بن عبدالعزيز واضحاً في إشارته إلى أن المستقبل يبنى الآن على أساس التحالفات، ما عنى أولوية التحالف مع مصر كعنصر لا بدّ منه إلى جانب مركزية التضامن الخليجي، بالإضافة إلى التحالفات الأخرى العربية والإسلامية التي يبرز منها حالياً التقارب مع تركيا. ولم يأتِ العاهل السعودي إلى القاهرة محمّلاً بالأفكار فحسب، بل جاء بعد عامٍ حافل بالتغيير في توجهات المملكة ومواقفها، وهي لا تنفكّ تُظهر للعرب وغير العرب أنها مصممة على إنهاء ما بدأته في اليمن وعلى المواجهة الشاملة للإرهاب، ومدركةً تماماً ما يتطلبه رأب الصدوع التي أصابت العالم العربي. فالسعودية ودول الخليج تمكّنت من المحافظة على استقرارها وسط الحرائق والانهيارات في محيطها العربي، وهذا الاستقرار هو ما يمكّنها الآن من التحرك في اتجاهين متكاملين ومتلازمَين: تشكيل تحالف عربي إسلامي لمحاربة الإرهاب، وصدّ التدخلات الإيرانية في شؤون البلدان العربية.

كان البعد الإستراتيجي قويّاً في الاتفاقات التي وقّعها الجانبان السعودي والمصري، وكان واضحاً أن مجلس التنسيق بين البلدين تعمّق في درس التفاصيل للتوصّل إلى تصور شامل تؤكّد فيه السعودية إدراكها وتحسسها ما تحتاج إليه إعادة تأهيل مصر اقتصادياً، لتتمكّن من استعادة دورها إقليمياً. لم يسبق للبلدَين أن بلغا هذه الدرجة من التفاهم الذي تمثّل باتفاق ترسيم الحدود البحرية وبمشروع الجسر البرّي. صحيح أن «الترسيم» كان يتطلّب تحوّطاً إعلامياً مسبقاً بشرح الحقائق التاريخية لوضعية جزيرتي تيران وصنافير، تفادياً لجدالاتٍ لا داعي ولا أساس لها في بعض البيئات السياسية والإعلامية المصرية، إلا أن المداولات في هذا الملف تمّت فيما كانت مصر بلا برلمان وتستعد لإجراء الانتخابات التشريعية. وفي أي حال لن يصبح الاتفاق ناجزاً إلا بعد عرضه ومناقشته في مجلس النواب المصري. فلا القيادة السعودية كانت في وارد «شراء» الجزيرتين ولا القيادة المصرية عرضت أرضاً «مصرية» لـ «البيع».

على رغم أن الكلام عن البعد الجيو- سياسي كان الأقل خلال زيارة العاهل السعودي، إلا أن أهميته فرضت نفسها. فالسعودية أكدت جهوزيتها للشروع في بلورة دور ينهي الفراغ العربي، وتتوقع في المقابل جهوزية مصرية. لم يقلْ الجانبان أن رؤاهما متطابقة في مختلف القضايا المتأزمة حالياً، لكنهما يعانيان من سياسة أميركية لم تعد غامضة، بل تتسم بالسلبية تجاه العرب فيما يغلب عليها الهوس سواء بإضفاء أي «مشروعية» لأي أمر واقع يفرضه الإسلام السياسي أو بالتقارب مع إيران على رغم سياساتها المزعزعة للاستقرار وعلاقتها المعروفة مع الإرهاب. ولم يكن لهذا الدور العربي أن ينتظر عودة سورية وإعادة تأهيلها، ليعود معها الثلاثي الذي كان يرسم إستراتيجية المنطقة ويقودها، فهذه صيغة أسقطها نظام دمشق منذ حرب إسرائيل - «حزب الله» صيف 2006، ثم في 2009، عندما دعا رئيسه السعودية ومصر للانخراط في حلف مع إيران، وأخيراً بعدما أختار التنسيق مع طهران منذ اللحظات الأولى للأزمة عام 2011 للمضي في قتل شعبه وتدمير بلده وتمزيق مجتمعه، رافضاً أية تسوية داخلية بتغطية عربية.

كان من الطبيعي أن تتوافق السعودية ومصر على مبدأ مواجهة التدخّل في الشؤون العربية، فهذه رسالة موجّهة بشكل أساسي إلى إيران إذا كانت باحثة عن حسن جوار حقيقي مع محيطها العربي، وهذا هو المنطلق الصحيح لتصحيح الخلل في العلاقات الإقليمية. وإذا كان منطق إحباط التدخل الإيراني في اليمن صحيحاً، فإنه يصح أيضاً بالنسبة إلى سورية، حيث لن يستقيم أي حل سياسي مع وجود قوات من «الحرس الثوري» وميليشيا «حزب الله»، فضلاً عن ميليشيات عراقية وأفغانية وباكستانية، بل يصحّ كذلك في العراق حيث افتضح فشل الموالين لطهران في إدارة الدولة كما انكشف الدور الإيراني الذي حال ويحول دون اقتلاع «داعش» من المناطق التي تعاملت معها الحكومة السابقة في بغداد بنهج القمع والإخضاع. لذلك لم يعد مبرَّراً ولا مفيداً أن تستمرّ تعمية التخريب الإيراني عربياً، وأن لا يكون هناك تقويم عربي موحّد لنتائجه التي بانت أينما حلّ الإيرانيون.

بالنسبة إلى أزمات سورية واليمن وليبيا، أيدت القيادتان السعودية والمصرية التوجّه إلى حلول سياسية، وعلى رغم ظهور اختلاف في مقارباتهما، خصوصاً للأزمتين الأُوليَيْن، إلا أن أهدافهما لم تكن متباعدة، فكلاهما مع وحدة سورية ويعارض تقسيمها، ومع وحدة اليمن وما توصّل إليه الحوار الوطني من لا مركزية بستة أقاليم. وكان يمكن للعلاقة المستمرّة مع النظام السوري والعلاقة المتجدّدة مع روسيا، كذلك العلاقة مع أحد جناحَي الانقلابيين اليمنيين، أن تمنح القاهرة حيزاً وقدرةً للتأثير الإيجابي في البحث عن حلول أو في تسهيلها، إلا أن هذه المساهمة ظلّت مفقودة حتى الآن، وربما تبرز الحاجة إليها لاحقاً، وعندئذ ربما تكون بفاعلية مضاعفة إذا تمّت بالتنسيق مع السعودية. ومن المهم جدّاً هنا أن لا يبقى الدور الإقليمي لمصر عالقاً في تفاصيل الحياة اليومية، بل إن تنشيطه وتفعيله قد يساعدان في معالجة الأزمة الداخلية.