لعل الرئيس باراك أوباما أكثر رئيس أميركي مر على العالم وأثار جدلا واسعا من حيث القرارات التي إتخذها والتي سيبقى مفعولها قائم للسنوات القادمة أو من حيث الإستراتيجية العامة التي حددها للسياسة الأميركية وخصوصا الخارجية. لا يمكن قراءة عقيدة أوباما بالمفرق وكأنها خيارات فردية لا تتخذ في أطر منهجية سياسية تحدد أولويات الإستراتيجية الأميركية في العالم.

فمؤسسة الرئاسة في أميركا هي تجسيد لمفهوم الديمقراطية بأرقى مستوياتها من خلال المشاركة في إتخاذ القرارات المصيرية وتحديد سلم أولويات المصلحة الأميركية. لذلك لم تكن قرارات رجل البيت الأبيض سهلة في العديد من المحطات التي كان إتخاذ القرار الواضح فيها يعني نهاية مبكرة للحياة السياسية للرجل ما أدى إلى صدمات حقيقية كانت تصيب مساعديه عندما يغير قراره في اللحظات الأخيرة كما حصل إبان تهديده لضرب قواعد النظام السوري بعد الهجوم الكيماوي على الغوطة وتراجعه في اللحظة الأخيرة بعد التوصل إلى إتفاق مع الروس يضمن نزع السلاح الكيماوي بشكل كامل من أيدي النظام السوري.

هنا يبرر الرجل في مقابلته الشهيرة مع مجلة الأتلانتك بأنه نظر إلى الأمر من زاوية مصلحة أميركا العليا ولم ير في قراره والذي إعترف بأنه كان صعبا تخل عن القيم  والأخلاق العالمية كما هول منافسوه في الداخل. كانت التجربة السورية من ألفها إلى يائها أوضح تبيان للعقيدة الأوبامية والتي أزعجت حلفاؤه في المنطقة.

وبدا أنه غير مكترث كثيرا للأمر لأنه وضع عنوان جديد لمرحلة جديدة للسياسة الأميركية حول العالم هي أن أميركا لن تتدخل بعد الآن أو أقله في عهده إلا إذا تهددت مصالحها بشكل مباشر أما الحلفاء فليعتمدوا على أنفسهم وليحققوا سياساتهم ومصالحهم شرط البقاء تحت الغطاء الأميركي.

ولأول مرة تعطي أميركا حلفائها وخصوصا العرب هذه المساحة من الحرية لإتخاذ القرار وهي مساحة من الوجهة الأميركية تخدم مصالح الولايات المتحدة كونها تساهم في تخفيف عبء التدخلات الأميركية في المنطقة وإعادة تحسين صورة أميركا في العالم.

هذه الصورة تضررت كثيرا إبان عهد الرئيس جورج بوش وتحولت أميركا إلى العدو الأول للعالم العربي والإسلامي وهذا ما أزعج أوباما ومؤسسة الحكم في واشنطن. فليس من صالح الغرب وخصوصا بلاد العم سام أن تعادي أكثر من مليار ونصف المليار مسلم وعربي حول العالم فإعتمد لذلك سياسة قائمة على التخفيف من التدخلات الأميركية المباشرة وإنسحب من العراق وأفغانستان وقدم محاضرة من قلب جامعة القاهرة كان يبشر فيها بصفحة جديدة مع العالم الإسلامي.

واليوم بعد ولايتين رئاستين لأوباما لم نعد نشهد مظاهرات يحرق فيها العلم الأميركي كما كان يحصل سابقا وحتى شعارات الموت لأميركا سقطت وأزيلت من على جدران طهران، هي أزيلت بعد إتفاق تاريخي مع إيران توج بتسوية الملف النووي ورفع العقوبات وإعادة إيران إلى الحظيرة الدولية، هذا الإتفاق مهد له بمعايدات سنوية كان يرسلها الرئيس الأميركي للشعب الإيراني بمناسبة عيد النيروز.

ولا يمكن قراءة العقيدة الأوبامية كسياسة خارجية فقط دون الأخذ بعين الإعتبار الإعتبارات الداخلية. فالرئيس الأميركي تسلم من سلفه أزمة إقتصادية وإقتصاد متخبط ومعدلات بطالة مرتفعة ومرد هذه الأمور إلى الميزانيات العسكرية الضخمة التي أنفقها جورج بوش على حروبه "الإلهية" وما نتج عنها من خسائر بشرية ولوجستية ضخمة في حربي العراق وأفغانستان.

فتميزت سياسته بالإنسحاب نحو الداخل الأميركي لترتيب البيت الداخلي ونجح في إنجاز وتمرير مشروع الرعاية الصحية الذي يعرف ب " أوباما كير" معتمدا سياسة تقشفية داخلية وتخفيض الوجود العسكري في الخارج. أضف أن الإقتصاد الأميركي سجل معدلات نمو مرتفعة في عهده وركز على قضايا البيئة والإحتباس الحراري وخلق فرص العمل وهي قضايا تهم الرأي العام الأميركي.

وتعرف عقيدة الرئيس الأميركي بأنها إعتمدت على سياسة أشبه بسياسة تصفير المشاكل مع الخارج فأقفل الملفات الكوبية والإيرانية بأقل الخسائر وإحتوى الدور الروسي من خلال وضع خطوط حمراء له في أوروبا منعه من تجاوزها لكنه لم ينجح في لجم الطموحات الروسية بشكل جذري بسبب أسلوبه الهادىء والبطيء في التعامل مع قضايا العالم، وهي نقطة ضعف يتهمه بها خصومه وحلفاؤه. فعقيدته إمتازت بأنها متدرجة وبطيئة وصبورة وهادئة ما فسح بالمجال لدول كإيران وروسيا أن تتمدد في شرق أوروبا والشرق الأوسط.

وهذا التمدد بحسب رأي الرئيس لم يهدد بشكل مباشر المصالح الأميركية خصوصا بعد تنامي خطر داعش وإتفاق الجميع على محاربته. ففي العراق تواجه الحكومة العراقية والحشد الشعبي المقرب من طهران داعش تخت غطاء الطيران الأميركي وهي مفارقة تؤكد أن الرئيس أوباما يعتمد سياسة الصبر الإستراتيجي لتفريغ شعارات إيران الإيديولوجية وتحقيق هدفه في الميدان بالقضاء على داعش. وتأخذ الصين حيزا مهما في عقيدة الرئيس،  فتخفيض تدخلاته في الشرق الأوسط وهي ليست إنسحابا كما يروج البعض، كانت بهدف تركيز الإهتمام على الصين وطموحاتها الجبارة وخصوصا الإقتصادية وقد إستطاع تحقيق منافسة مهمة للبضائع الصينية المصدرة إلى أميركا من خلال دعم الإنتاج الإستهلاكي المحلي. وقد خلق معادلات جديدة لتوازن الرعب في الجوار الصيني عبر دعم تايوان فضبط الإيقاع الصيني وتشارك معها.

فالشراكة كمفهوم وسياسة تبدو خياره الإستراتيجي والثابت الوحيد في عقيدته كطرحه للشراكة بين إيران والسعودية والشراكة الإستراتيجية بين أميركا ودول الخليج. مع هذا، وعلى الرغم من ما قيل وسيقال عن العقيدة الأوبامية، تبقى هذه العقيدة فكرا جديدا طرأ على السياسة الأميركية وغيرها جذريا على مدى 8 أعوام.

نجح أوباما وعقيدته ولكنه فشل وعجزت أيضا، تبقى كوريا الشمالية خطرا حقيقيا يهدد السلم العالمي ولم تنل حصتها الكافية للمعالجة ربما لكثرة القضايا التي تعامل بها الرئيس أو بسبب التركة الثقيلة التي خلفها له سلفه وتبقى قضية الإرهاب العالمي قلقا مستمرا يزعج أوباما وسيزعج من يخلفه وقضايا الديمقراطية والهجرة الغير شرعية وتبييض الأموال وتبقى قضية الصراع العربي الإسرائيلي أهم فشل أصاب هذه العقيدة فربما سوء القدر شاء أن يتزامن عهد أوباما مع عهد نتنياهو والرجلان غير ودودان إتجاه بعضهما البعض.

اليوم في الولايات المتحدة الأميركية تكثر الأقاويل عن نهج الإدارة الجديدة، فبين ترامب وكلينتون الأمور ضبابية وبين أوباما والمستقبل سيكتب التاريخ أنه رئيس الفرص الذي لم تستثمره دول المنطقة وشعوبها ولم تستغله بالطرق الصحيحة.