أبرز تجليات فشل الإسلام السياسي في دولنا العربية والإسلامية أنه خلص بعد عقود من الحضور الفاعل ومن التجربة السياسية والجهادية، إلى ما نصفه بـ”العجز الحضاري”. ذلك أن أدوات فعل هذا الإسلام وحضوره اليوم في الميدان السياسي، المعبّر عنه في الحركات الإسلاموية الجهادية والسلفية والأصولية، تتركز في العصب المذهبي والطائفي. فكلما نحت هذه الحركات نحو تكفير أقرانها من الحركات أو المختلف سياسيا ومذهبيا ودينيا، حافظت على وجودها وحضورها، كما أظهرت أن جاذبيتها لدى الجمهور تقتصر على البعد المذهبي أو على عصبية دينية فارغة تصادر المختلف بالعبارة الشهيرة “الإسلام هو الحل”.

فكل محاولات بناء شرعيات مستجدة لسلطات ناشئة كولاية الفقيه الشيعية، أو السلفيات الجهادية التي تريد استعادة دولة الرسول في يثرب على طريقة الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو استحضار نموذج الخلافة الراشدة وصولا للسلطنة العثمانية في أحزاب الإسلام السياسي المختلفة، هذه المحاولات ترجمت الإيغال والمبالغة في ممارسة عنف منفلت باسم هذه الشرعيات. عنف لم يوسّع دائرة الخضوع لشرعيتها أو يمدها بحلول لمعضلات الواقع العربي وتحديات الاقتصاد والتنمية والتشغيل والصحة والتعليم وغيرها. أي غاب عنه أي محاولة لصناعة ما يندرج في سياق مشروع النهوض الحضاري العربي.

بهذا المعنى تصبح المسألة الشيعية في العالم العربي اليوم هي الوجه الآخر للمسألة السنيّة. بمعنى أنّه يمكن وضع نموذجي الإسلام السياسي لدى الشيعة والسنّة في خانة واحدة تترجم تداعيات المأزق الحضاري الذي تعيشه دولنا ومجتمعاتنا العربية. فمعاندة الإسلام السياسي لشروط التقدم في بناء مشروع الدولة تدفعه إلى محاولة سلّم العصبية المذهبية، متخفّفا من الإجابة عن سؤال “ماذا لديك لنواجه تحديات التخلف وما هي مسارات التنمية والتقدم؟”. ذلك أن الإسلام السياسي، في تجاربه الاجتماعية، ساهم ببناء جيل يعيش حالة انفصام بين التسليم بالغيبيات، وبين القداسة التي طالت الفكر والسياسة، وبين العقل النقدي الذي طالما جرى تعطيله بالتسليم الغيبي.

من هنا فإن الإسلام كدين سماوي تعرض لتشوهات من رافعي لوائه أكثر من خصومه. هذه التشوهات، التي نعانيها اليوم في عالمنا العربي والإسلامي، جاءت من دعاة الإسلام السياسي. أولئك الذين مارسوا السياسة باعتبارها فعلا إلهيا مقدسا يضفي على قراراتهم قداسة دينية. وهذا ما جعل الإسلامويين يعتبرون المعترض عليها معترضا على إرادة الله وضاربا بعرض الحائط بما هو مقدس. لا يعني ذلك، بطبيعة الحال، أن الذين اصطدموا أو عارضوا تيارات الإسلام السياسي هم على صواب في ما يتبنون من خيارات سياسية أو فكرية، سواء كانوا أنظمة حاكمة، أم مؤسسات سياسية واجتماعية أو عسكرية ضمن المكونات الوطنية في مختلف الدول العربية. ولعل انفجار الإسلام السياسي وانتشاره العسكري والشعبي، في مشهده المستمر منذ عقود في المنطقة العربية، كشفا عن مأزق طالما كان قائما في نظرة تيارات الإسلام السياسي.

إذ لم يكن هناك فصل بين السلطة السياسية باعتبارها تعبيرا عن إرادة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات على اختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية، كما خلصت إليها الدولة الحديثة في عالمنا المعاصر، وبين الدين الذي ينطوي على جملة تشريعات يتفق المسلمون على جزء منها ويختلفون على تفسير أجزاء كثيرة منها.

إذا كان الإسلام السياسي السني والشيعي، يقرّ بوجوب قيام الدولة الدينية، فإن فرعيه السني والشيعي يختلفان على شكل هذه الدول وسلطتها ومرجعيتها. وفي كلا المذهبين ثمة اتجاهات متعارضة حول دور الحاكم والسلطة وطبيعتهما وحول الشريعة وتطبيقاتها. هذا ما هو قائم لدى بعض الشيعة، وما هو أكثر تنوعا وانقساما بين التيارات السنية من الإخوان المسلمين، إلى السلفية وحزب التحرير وغيرهم.

مصدر الخلاف يمكن إدراجه في سياق الاجتهاد. لكنه في جوهره يعود إلى إضفاء القداسة على التراث الديني، في ظل خلاف حول هذا التراث، إذ يجمع الفقهاء على أنه تراث مختلف عليه بين الفقهاء أنفسهم وبين المذاهب الإسلامية في ما بينها، يصل إلى حد التكفير المتبادل. من هنا فإن تنظيم داعش، وقبله تنظيم القاعدة، حين يقومان بأعمال القتل والتدمير والاستباحة والسبي وتكفير الآخر، يقومان بذلك أو بعضه مستندين في فهمهم إلى نصّ ديني، أو إلى قراءة لهذا النص. نصّ اكتسب بفعل الجمود الفكري خلال العقود والقرون الماضية صفة المقدس.

الإسلام السياسي يعبر عن المأزق، من خلال أزمة تقديس المجال السياسي وقراراته بفعل إضفاء القداسة الدينية على ما هو متحرك ومحل اختلاف وتنوع وصراع طبيعي. فلكلٍّ إسلامه السياسي وقواعده الفقهية التي لم تستطع أن تساوي بين المسلم والمسلم. فلا الإسلام السياسي الشيعي يعطي شرعية السلطة لغير الشيعي، ولا الإسلام السياسي السني يقرّ بشرعية كاملة للحاكم المنتمي إلى المذهب الشيعي. والحال هذه، فإن المذاهب، بما هي تنوع واجتهاد في قراءة النص الديني ضمن القرآن والسنة، خضعت لأدلجة في القراءة المذهبية ضمن مشروع سياسي سلطوي ديني. وهو لم يفصل بين السلطة وبنيتها الدستورية من جهة، وبين المذهب من جهة اخرى. وبالتالي صار من الصعب أو المستحيل في حاضرنا إيجاد نموذج لإسلام سياسي يمكن أن يتوافق عليه أصحاب نظرية الدولة الدينية في الإسلام.

منبع الأزمات هو التراث. أي ما صنعه بشر بالنصّ المقدّس، والتفسيرات والاجتهادات حوله. ولا بدّ من البدء في تفنيد هذا التراث والتجرّؤ عليه.

 

صحيفة العرب