تعرّض الإسلام، كدين سماوي، لتشوهات عديدة من قبل الذين رفعوا لواءه، أكثر مما تعرّض من أولئك الذين خاصموه. تشوهات نعانيها اليوم في العالم العربي والاسلامي. وصدرها أنفسهم الذين مارسوا السياسة باعتبارها فعلا إلهيا مقدسا، بهدف إضفاء قداسة دينية ما على قراراتهم السياسية والإدارية، والتي تعبّر عن نصالح شخصية وحزبية ضيّقة أيضاً. وهذا ما جعل الإسلامويين يعتبرون المعترض عليها معترضا على ارادة الله وضاربا بعرض الحائط بما هو مقدس. بالتأكيد هذا لا يعني أنّ من عارضوا الإسلام السياسي كانوا على حقّ. ولا يعني أنّ الخيارات الأخرى كانت مصيبة، سياسية كانت أو فكرية، وتبعت لأنظمة حاكمة أو لمؤسسات عسكرية أو اجتماعية أو فكرية.
أبرز مظاهر التشويه لحقت بالإسلام السياسي من الاجتهاد، مقرونا بإضفاء القداسة على التراث الديني، في ظل خلاف حول هذا التراث. إذ يجمع الفقهاء على انه تراث مختلف عليه بين الفقهاء أنفسهم وبين المذاهب الاسلامية في ما بينها، يصل الى حد التكفير المبتادل.
أزمة الخلاف حول التراث الاسلامي تجعل كل مسلم، تحديدا من هو طامح لتطبيق الشريعة، يبحث في خزائن هذا التراث فيجد ما يحتاجه كي يبرر افعاله، ايّاً كانت... والى القراءة القاصرة للنص الديني وتجلياته في التاريخ ومراحله المتنوعة، تصبح النزعة الانتقائية من خزائن القرآن والسنة، ومن التراث اللاحق بهما، طاغية ومغرية لكل من يشاء. بحيث ان ايّ سلطة، مهما كانت مسيئة، تظل قادرة على اضفاء شرعية دينية على سلوكها. والنماذج في عالمنا العربي لا تعد ولا تحصى. كما هي حال جماعات الاسلام السياسي على اختلافها. فهي لم تعجز، امام ايّ موقف تتخذه، عن اضفاء البعد المقدس عليه.
هكذا يصير الاسلام السياسي، او مشروع الدولة الدينية الاسلامية، مشروع استبداد في احسن الاحوال او مشروع قسمة للمسلمين اقله، قبل ان يكون مشروعا لحروب اهلية بين المسلمين وغير المسلمين.
واذا كان من فضيلة يمكن ان تخرج من هذا التصدع السياسي والاجتماعي وحتى الديني، في عالمنا العربي، فهو ان الاسلام تشوه حين اصرّ البعض على اعتباره سلطة ومصدر شرعية الدولة. ولا يمكن نزع التشوهات عنه الاّ حين يتم الفصل الموضوعي بين مساحة الاسلام كدين ومساحة الدولة وسلطاتها التي هي من اختيار المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات ايا كان انتماءهم الديني او الايديولوجي والسياسي...هما مساحتان مختلفتان واحدة منزلة من السماء واخرى هي من صنع الناس وانظمة مصالحهم واختياراتهم الحرة.
المعضلة الاساسية إذا تكمن في فشل مشروع الدولة الوطنية التي تقوم على اساس المواطنة، وتداول السلطة، التي تتأتى شرعيتها من المواطنين، وتستند الى شرعية دستورية. ليست فلسطين مصدر شرعية السلطة ولا شعار الاسلام هو الحل، ولا شعار المقاومة، باعتبار ان هذه العناوين كانت سبيلا لتثبيت الاستبداد. هذا ما تقوله التجارب الايديولوجية التي حكمت في الدول العربية. الأزمة في الاستبداد نفسه، سواء كان باسم الدين او باسم المذهب او باسم القومية او باسم تحرير فلسطين او باسم مقاومة المحتلّ.
فشل بناء الدولة الوطنية وطوباوية الدعوة الى الخلافة الاسلامية يتقاطعان عند عطب واحد، هو الاستبداد. الخلافة الاسلامية، او دولة ولاية الفقيه، تقومان على اساس واحد يتقاطع مع فشل بناء الدولة الوطنية، وهو الاستبداد. الاستبداد هو الاصل في هذه النماذج، اي ان شرعية السلطة في هذه النماذج لم تستند الى خيار المواطنين، فهي اما سلطة مستمدة من الله، او سلطة تكتسب شرعيتها من الايديولوجيا، سواء كانت قومية او وطنية او دينية.
الإستبداد هو ما يجعل "داعش"، على سبيل المثال لا الحصر، احتمالا مستحيلا للحكم. فالعرب يثورون على الاستبداد، وليس على نظام محدد. والأرجح، والأمل، ألا يكون للاستبداد مكان في مستقبلنا العربي.