عشية التأهل إلى عام الشغور الرئاسي الثالث، يبلغ سأم اللبنانيين من الحال العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية أشدّه، من دون أن يطوّر ذلك بحدّ ذاته ديناميات احتجاجية واسعة. 

ليس معنى هذا أننا محكومون بالخمول. لكن عام الشغور الثالث الذي بدأ فعلياً يعني بالحد الأدنى أنه، وحتى لو تأمنت في أمد منظور، عملية «ردم الشغور» بانتخاب رئيس عتيد، فإن ذلك لن يعني أبداً «استئناف» عمل المؤسسات، بالعودة إلى دورة اعتيادية أو طبيعية لها، لم تكن منذ سنوات طويلة، ولو بالحد الأدنى، ولو بالشكل الرمزي. 

بل إن أقصى ما في مستطاع «ردم الشغور» إذا تأمّن تقاطع الحسابات والمصالح والضغوط الذي يمكن ان يتيحه، هو تجاوز «الكربجة» الحاصلة، لإتاحة المجال لتدشين مرحلة انتقالية، مضبوطة بقالب مؤسساتي معيّن، وبلغة دستورية معينة.

هذا بحد ذاته يفترض ان يعيد تدوير المقاربات الحاصلة لهوية الرئيس المفترضة. فالمطلوب رئيس جديد في نطاق رفع هذه الكربجة، لتأطير ما بعد ذلك من تحديات بشكل يجعلها تحديات قابلة للمعالجة والحل، بدءاً من معضلة التمثيل والمشاركة واعادة شحن النظام السياسي بمصادر الشرعية، من خلال اقرار قانون جديد للانتخاب واجراء الانتخابات النيابية. 

فالمشكلة الأساسية على صعيد النظام السياسي ليست معضلة عدم انتخاب رئيس للجمهورية بحد ذاتها، وإنما الحاجة إلى انتخابه كي يفسح في المجال لرفع الكربجة، بدءاً من فتح الطريق لإقرار قانون الانتخاب. الاستعصاء الاساسي في الجمهورية الثانية لم يكن الاتيان برؤساء جمهورية، بقدر ما كان العجز عن اقرار قانون انتخابي له رصيد من الثبات والتوازن والاتفاق عليه كقاعدة لإدارة اللعبة التنافسية والتداولية. 

بدخول الشغور عاماً ثالثاً فهذا يعني اننا عملياً اخترنا عهداً رئاسياً كاملاً ليس فيه رئيس، وهذا بحد ذاته يجعل من كل من يشترط مرشحاً يراه مثالياً أو لا أحد سواه، مساهماً في تمديد زمن هذا العهد الرئاسي المتروك للشغور. سنتان، ثلاث، بلا رئيس جمهورية: هذا وقت له نتائجه وتداعياته.

يخطئ من يرى الى الشغور كمحطة لإنتاج الرئاسة الأقوى أو الأفضل تمثيلاً أو الأكثر حكمة، لا فرق، ولا يتناول واقعة ان الشغور لم يعد أسبوعاً وأسبوعين، وأنه بالضرورة سيترك آثاراً عميقة على اي عهد يعقبه، إن لم يكن اكثر. يخطئ من يرى الى الشغور كعملية «تعتيق للنبيذ». 

منطق «كل شيء أو لا شيء»، وعدم الاستعداد من جانب الأركان السياسيين، للاتفاق على مبدأ ان لا ثوابت في الموضوع الرئاسي، وإنما سياق وظرف ولحظة، وشغور لا يرحم، هو منطق يعمّق المشكلة المتمثلة بتمرد قسم من الكتل والشخصيات النيابية عن تأدية واجبها الدستورية بالمشاركة في جلسات الانتخاب، وانتخاب رئيس. 

قطعاً لا يمكن المكابرة على جدية المشكلة المتعلقة بالمشاركة السياسية وكيفية اصلاح شأنها في العلاقة بين الطوائف، لكن هنا أيضاً، لا يمكن الاستقرار على منطق «كل شيء أو لا شيء». لأنه منطق يحكم بأن يتمدد حكم الشغور، حكم «اللاشيء» الى حين يهلّ زمن «الكل شيء» الذي يصير بهذه الحسبة أبعد فأبعد.