علامات إحتضار لبنان متعددة. الأدلة تكاد تكون يومية. وهي تبدو أقوى من تلك البراهين التي قدمتها الحرب الاهلية، والتي تحضر ذكراها هذه الايام في الروائح الكريهة المنبعثة من كل مكان، والمحفزة على المقارنة، بل المخاطرة في التعبير عن الحنين الى تلك الحقبة السيئة الذكر.

 العلامة السياسية على ذلك الإحتضار ليست سوى تعبير عن انحدار اقتصادي لم يسبق له مثيل، حتى في ذروة المعارك على الجبهات وخطوط التماس، وتفكك طائفي-مذهبي متجدد زرعت الحرب الاهلية بذوره وحان موعد حصاده الجديد. السلطة الراهنة هي نتاج تلك الحرب، ورموزها هم الورثة الشرعيون، والجمهور في غالبيته الساحقة، ما زال يحارب ولكن باشكال أخرى.

 الطارىء الوحيد الذي يغذي ذلك الاحساس الداخلي، والتقدير الخارجي (العربي والاجنبي) الذي يتردد في مختلف العواصم الكبرى، بان لبنان على وشك الانهيار، هو الانفجار السوري الذي دمّر دولة الجوار اللصيق، التي كانت وستظل تمتلك شروط بقاء لبنان واستمراره مهما كان نوع نظامها المقبل وطموحه.

  الدولة اللبنانية التي تُشيّع اليوم بمرثيات صاخبة، لم يكن لها وجود فعلي سابق، كانت هناك محاولات متكررة لبنائها، او بالاحرى لاعادة بنائها حسب التعبير المهذب، لكنها كلها باءت بالفشل. وكذا الامر بالنسبة الى الاجتماع اللبناني الذي لم يقدم يوماً أدلة دامغة على الوحدة والتماسك ولم يعثر على الكثير من القواسم الوطنية المشتركة.

الانفجار السوري فضح الجميع في لبنان، وأربك الجميع خارجه. ولعل الردح اللبناني المتواصل حول تورط حزب الله في سوريا وتدفق مئات الالاف من النازحين السوريين الي الاراضي اللبنانية، هو أقل شأنا من الازمة الاعمق التي يجتازها الكيان اللبناني. وقد يكون هذان الحدثان، اللذان سبق للبنان ان أختبرهما بالتحديد مع التورط اليساري السابق خارج الحدود اللبنانية ومع الهجرة الفلسطينية داخلها، من المعالم الايجابية، ليس بإعتبارهما درساً او عبرة، بل بصفتهما نداء موجهاً الى وسطاء الحل السوري، لوضع لبنان على جدول الأعمال، لا بإعتباره واحداً من خطوط التماس الخلفية السورية، ولا بصفته محافظة سورية ذات حكم ذاتي خاص، على ما يردد بعض الغلاة السوريين، بل بوصفه كياناً ملحقاً بالكيان (الكيانات) السوري العتيد. 

ثمة إجماع لبناني على أن الانفجار السوري هو أحد أهم أسباب الإحتضار اللبناني الراهن، على الرغم من الخلاف حول مسؤولية الوصاية السورية او الخارجية، وغيابهما المأسوف عليه من غالبية لبنانية وازنة. لكن ذلك لا يعني بالضرورة ان حلول السلام السوري يقود حكماً الى إستقرار وإزدهار لبناني جديد. والاعتماد على الهدوء النسبي الذي ينعم به لبنان بالمقارنة مع الاضطراب السوري والعربي الشديد، لم يخدم أي غرض ولم يؤسس لغير الموت البطيء للكيان اللبناني، حسب تعبير أشد العرب والاجانب حرصاً على بقاء لبنان.

  ثمة حاجة الى مخيلة سياسية واسعة تبتكر إلحاق لبنان بعملية السلام السورية التي تخطو خطواتها الاولى المتعثرة. ليس المقصود بذلك ان يتحول حزب الله الى مفاوض او شريك في تلك المفاوضات، لان مستقبله السوري لا يمكن ان يشكل ورقة مؤثرة على أحد من السوريين،  كما ليس المقصود ان يتواصل الزجل اللبناني  حول خطر توطين النازحين السوريين. فالقضيتان خاسرتان، لان الحزب أصغر من أن يكون حاسماً في الداخل اللبناني، بالرغم من كل ما يقال من جانب خصومه عن تحكمه بمفاصل الدولة، ولان النزوح السوري يمكن ان ينقلب الى نزوح لبناني في إتجاه سوريا، في اللحظة التي يتغير فيها النظام في دمشق.  أسوأ ما في حالة الإحتضار اللبناني الراهنة أنها تزعم أن إختيار رئيس وتشكيل حكومة واجراء انتخابات بلدية او نيابية هي الشروط الالزامية الوحيدة لقيامة لبنان..الذي لا يزال يعيش في مرحلة ما قبل اختراع فكرة الدولة، ولا يزال يحتقر تلك الفكرة، ولم تنفع جميع التجارب السابقة في إنتاجها.