مرّت السياسة الخارجية الإيرانية بعد سقوط الشاه، وقيام الثورة الإسلامية عام 1979، بمراحل مختلفة، تميزت كل مرحلة بتعامل خاص مع الواقع والمعطيات الدولية. وقبل استعراض تلك المراحل، لا بد من التأكيد على أن العامل المشترك بينها، وحتى اليوم، هو البعد الجيواستراتيجي الذي يلعب دوراً كبيراً في سياسة إيران. كان هذا البعد قبل الشاه واستمر بعد سقوطه. إلى جانب التأكيد على الاستقلال الوطني لإيران، وهو ما يعرف بالفارسية "استقلال آزادي، جمهوري إسلامي" أي: استقلال، حرية، جمهورية إسلامية، وهو أحد الشعارات التي رفعتها الثورة الإيرانية وما زال يلعب دوراً في التوجهات السياسية للخارجية الإيرانية. 

المرحلة الأولى: ما بعد الثورة 
لعب الإمام آية الله الخميني وأيديولوجيته، في مرحلة ما بعد الثورة (1980)، دوراً كبيراً في السياسة الخارجية في ذلك الوقت (لاستدعاء رجل الدين في السياسة تقاليد تعود للعصر الصفوي). وكان الحرص علي نشر المذهب الشيعي وتصدير الثورة إلى الخارج أحد أهم ملامح تلك السياسة. ونتيجة ذلك، اتسمت العلاقات الخارجية لإيران مع دول الجوار بالقطيعة والتوتر، خصوصاً مع المملكة العربية السعودية، ولعل حديث الخميني عن محاولة تصديره الثورة إلى البلدان الأخرى عزّز شكوك الأنظمة إلى جانب النخب السياسية برغبة إيران في محاولة نشر تأثير الثورة في البلدان المحيطة. وقد أضرّ التصريح الذي قال به الخميني، في تلك الفترة، كثيراً بإيران وبعلاقاتها الخارجية وفرض عليها نوعاً من العزلة والخصومة مع جيرانها العرب، وخصوصاً السعودية. 
اتسمت استراتيجية السياسة الإيرانية في تلك الفترة بسمات ثلاث: هزيمة الجيش العراقي عسكرياً، محاولة تدمير العلاقة بين بغداد والدول العربية، إيجاد جمهور من الأنصار داخل المجتمعات العربية، خصوصاً بين السكان الشيعة. في المقابل، الإبقاء على علاقات جيدة، خصوصاً مع تركيا وباكستان. وقد عزز هذا النهج السياسي وجود شخصيات راديكالية التوجه، مثل آية الله حسين علي منتظري وحجة الإسلام مهدي كروبي وصادق خلخالي وعلي أكبر محتشمي. 
 

المرحلة الثانية: الإصلاحات الدستورية والسياسة الخارجية 
 

يعود تمسك رجل الدين الإيراني بالسياسة إلى عام 1906، وهو ما عرف بثورة الدستور، وتم 
التحالف فيه بين رجال الدين والليبراليين، ثم انقلب الليبراليون عليهم وأزاحوهم بعيداً. منذ تلك اللحظة، قرّر رجل الدين الإيراني أن يكون حاضراً في اللعبة السياسية، ولن يفرّط فيها. مع تطور الوقت ومع الإصلاحات الدستورية التي تمت في إيران عام 1989، تم توسيع سلطات الرئيس بدرجة كبيرة، كما أنه منح المرشد الأعلى سلطاتٍ مطلقة، إلا أن هذا الدستور لعب دوراً مهماً في السياسة الخارجية الإيرانية، فقد جعل السياسة الخارجية من اختصاص الرئاسة، وبالتالي، تم تحجيم دور المرشد الأعلى في السياسة الخارجية، وأصبح من حق الرئيس وفريقه لعب دورٍ مهم في العلاقات الخارجية لإيران. وبموجب هذا الدستور، تذهب تقارير وزير الخارجية مباشرة لرئيس الجمهورية. وقد تم الاحتفاظ بهذا الدور. ولذلك نرى أن مؤسسة الرئاسة تلعب دوراً مهماً في السياسة الخارجية، حسب التوجه والرؤية اللتين تتبناهما. في الفترة من 1979 إلى 1989، ومع بروز التحالف الثلاثي بين آيه الله علي خامنئي ومحمد يزدي (رئيس السلطة القضائية آنذاك) والرئيس هاشمي رفنسجاني، بتوجه شبه إصلاحي، منذ تلك اللحظة بدأت معاناة التيار البراغماتي في ظهور شخصياتٍ ذات نفوذٍ تقوم بعرقلة هذه المشاريع الإصلاحية ورفضها، مثل ما قام به آيه الله أحمد جنتي في عرقلة أطروحات إصلاحية عديدة، حاول تقديمها رفسنجاني. ثم ثبت أن الرئيس رفسنجاني كان هو الحليف الأقرب لخامنئي، ودعمه الأخير في عديدٍ من أطروحاته، على الرغم من أن بعضهم قد يقول إن خامنئي متشدّد، فكيف له أن يقوم بذلك، والحقيقة أن أبرز الأمور تشدداً لدى خامنئي هو رفضه تغريب إيران، إذا جاز التعبير، أي صبغ المجتمع الإيراني بالصبغة الغربية.

 المرحلة الثالثة: تجليات الإصلاحات الدستورية وبداية سياسة البراغماتية 


مع انتهاء الثمانينات وبدء التسعينيات، دخلت المنطقة في متغيراتٍ جديدةٍ، نتيجة عوامل عدة: 
انتهاء الحرب الباردة بين الأميركان والروس ( حلفاء الإيرانيين)، انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وبروز قيادة أكثر واقعية في إيران، وبروز الأهمية المتزايدة للسياسة النفطية، إلى جانب الأزمة الكويتية. ذلك كله جعل إيران تفكر في الدخول في مرحلة سياسيةٍ واستراتيجيةٍ إقليميةٍ، لبناء جسورٍ تخدم مصالحها وتخرجها من عزلتها. تنازلت إيران، في تلك الفترة، جزئياً عن أيديولوجيتها الشيعية، تزامناً مع تلك التعديلات الدستورية، فمدت إيران جسور التواصل وعزّزتها مع الحركات الإسلامية في العالم العربي: جبهة الإنقاذ الإسلامي في الجزائر، نظام الترابي في السودان، حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، الإخوان المسلمين في الأردن، حزب النهضة في تونس، والجهاد الإسلامي في مصر، إلى جانب حزب الله اللبناني الامتداد الأيديولوجي والتنظيمي لإيران. لم يقتصر الدعم الإيراني، في تلك الفترة، على الحركات الإسلامية فقط في العالم العربي، بل امتد ليشمل أماكن أخرى، مثل: حركة مورو الإسلامية في الفيليبين، وللمسلمين البوسنة. وكان ذلك كله تأكيداً على اتجاه سياسي جديد، تنتهجه إيران في سياستها الخارجية بانفتاحها، وتقديم الدعم للحركات الإسلامية، باختلاف توجهاتها. في هذه الفترة، ظهر الصراع بين كتلتين داخل النظام الإيراني هما: المعتدلون/ البراغماتيون، في مواجهة الراديكاليين، وهو ما شكل عنصر حسم حقيقي في العملية السياسية. 
شهدت هذه المرحلة تحولاتٍ فردية لدى بعض الأصوليين، مثل علي أكبر محتشمي، خصوصاً مع صعود التيار البراغماتي في تلك الفترة، متمثلا في صعود رفسنجاني إلى السطة، وظهور مهدي كروبي وخويني لاحقاً، وقد دعما العملية الإصلاحية، خصوصاً في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. بالطبع في ما بعد، عرقلت هذه التوجهات شخصيات داخل النظام. في الجانب المقابل، نرى تأثير هذا الدستور الذي جعل السياسة الخارجية من اختصاص الرئيس وحده، حيث كان الدور الذي لعبه الرئيس هاشمي رفسنجاني، آنداك، محورياً، خصوصا أنه كان القوة المحركة التي أدت إلى قبول إيران قرار مجلس الأمن الدولي الذي أنهى ثمانية أعوام من الحرب مع العراق. كما سعى إلى تشجيع التقارب مع الغرب، وطرح إيران نفسها قوة إقليمية. امتدت هذه المرحلة بفوز محمد خاتمي برئاسة الجمهورية، وهو الذي استكمل السياسة الإصلاحية على المستويين الخارجي والداخلي، وكانت أهم إصلاحاته الداخلية تحديد الأولويات الأولى (إعادة البناء الاقتصادي وتعزيز المجتمع المدني وسيادة القانون). وكانت له جملة شهيرة هي أن الاقتصاد والسياسة من شأن المدنيين، والمسائل العسكرية من اختصاص العسكريين، في إشارة منه إلى توغل الحرس الثوري الإيراني وقوته. ولعل تصريحات رئيس الحرس الثوري الإيراني آنذاك، تزامناً مع أحداث جامعة طهران، أوضحت صورة الصراع بين الرئيس خاتمي، شخصاً إصلاحياً، والراديكاليين وحلفائهم. في الوقت نفسه، يمكن، أيضاً، ذكر أكثر من شخصية بارزة لعبت دوراً مهماً في السياسة الخارجية الإيرانية، منهم علي أكبر ولايتي، وكذلك وزير الخارجية الإيراني، كمال خرازي، وهو أحد أهم الشخصيات الإيرانية التي تولت منصب وزير الخارجية، علاوة على أنه معروف باعتداله، والدفع في اتجاه علاقات أفضل بين إيران وجيرانها العرب. 

المرحلة الرابعة 
شهدت المحاولات الإصلاحية على مستوى السياسة الخارجية، مع صعود أحمدي نجاد إلى 
السلطة، تدهورا في العلاقات الخارجية بين إيران والغرب، وبين جيرانها العرب، واستمرت طوال سنوات رئاسة أحمدي نجاد، إلا أن السياسة الخارجية ما لبثت أن عادت وأخذت منحى جديداً مع صعود حسن روحاني إلى السلطة وتوجهه الإصلاحي، ولعل أحد أهم إنجازاته تسوية الملف النووي الإيراني، وإتمام الاتفاق النووي بين بلاده وأميركا والدول الغربية، ولعل فوز تحالفه (فوز الإصلاحيين) في الانتخابات، أخيراً، يعزّز من مكانته، هو وفريقه، ويشجعه أكثر على الاستمرار في العلمية الإصلاحية. الظروف الآن شبيهة بما كانت عليه الأوضاع في حقبٍ سابقة، حيث إيران متورطة في معارك داخل دول عربية، سورية واليمن والداخل اللبناني والبحرين، إلا أنها أصبحت أكثر توافقاً مع القوى الغربية، وأصبح هناك انفتاح اقتصادي بينها وبين الدول الغربية، ستجني، عاجلاً أم آجلاً، ثماره. 
ما تحتاج له إيران، الآن، هو العودة إلى سياسة البراغماتية السابقة التي تمكّنها من تقاربٍ أكثر مع جيرانها العرب، والوصول إلى تسويةٍ جزئيةٍ لبعض القضايا العالقة. ستحاول إيران أن تقيم تحالفاً مع تركيا في الوقوف ضد قيام دولة كردية يهدد مصالحها، وكذلك مصالح الدولة التركية، ويضمن تقاسماتٍ مستقبليةً حول قضايا المنطقة. ستكون حاضرة كذلك وبقوة في الملف السوري، إذا تمت تسويته، وكذلك في الملف اليمني، ستحاول أن تعزّز هيمنتها أكثر، ورغبتها في السيطرة، وأخذ مكان أكبر في خريطة المنطقة التي يعاد تشكيلها على أسس عرقية وطائفية وإثنية. هل تدرك الدول العربية ما تقوم به إيران، أم ستظل في حالة من الجمود والمواقف الحدّية في لعبة السياسة الدولية، والاعتماد على الشريك الأميركي بصورة أكبر. ما كشفت عنه الأيام أن الدول العربية تتأرجح سياستها بين المعسكرين، الروسي تارة والغربي والأميركي تارة أخرى، في إطار من التبعية، وليس الندية وموازين القوى. 
صحيح أن بعض الدول حاولت، أخيراً، أن تطور من سياستها الخارجية والاستراتيجية، إلا أن هذه السياسة لم تتبلور حتى اللحظة، للعب دور كبير يقوم على مراعاة موازين القوى، وإقامة تحالفات توسع من دورها، كقوة إقليمية حقيقية. قد يستطيع بعضهم فعل ذلك. لكن، متى وعلى أي أسس؟ ستجيب الأيام المقبلة على كل الأسئلة بلا شك.