لأنها نص غير موقع وغير مؤرخ، لا تخلو وثيقة “مجموعة الإبتدار العلوي”التي تزعم الاندراج في النصوص التاريخية التأسيسية، من طابعها الراهن الذي يدخل في سجال عميق مع وثائق مشابهة تصدر في هذه الايام عن مختلف الطوائف المكونة للمشرق العربي، والتي تلوح بسيف هوياتها القاتلة او المقتولة. 

لم تكن الاخطاء اللغوية الفادحة، والمعيبة فعلا، في ذلك النص المجهول مجرد تحدٍ إضافي لقراءته المتأنية والمتكررة، ولا كانت المفردات المشتقة من أصول ليس لها وجود في اللغة ولا في تراكماتها، هي سبب العناء والشقاء في تقدير قيمة الوثيقة ووظفيتها الثقافية- الدينية. ثمة افتراق مذهل عن لغة قريش، يعكسه لسان الاشقاء السوريين المعاصر، والمستمد من أسس عربية تبدو في بعض الاحيان مخادعة او حتى مزيفة. ولا يمكن ان ينسب هذا الافتراق فقط الى نقص في الثقافة اللغوية، بل الى هجرة دائمة، متجددة أخيراً، من الهوية العربية التي لم يرد ذكرها أبداً في ذلك النص التأسيسي.

السؤال عن الحافز الذي دفع “مجموعة الابتدار العلوي” لكتابة هذه الوثيقة سهل جداً ومفهوم جداً. إحساس الطائفة العلوية بالخطر الوجودي لا يحتاج الى برهان. لكن الانكفاء الى مثل هذا النص والسعي الى رد الاتهامات بالباطنية الدينية والاجتماعية والسياسية، ونفي وقائع الانفصال الاولى في القرن الماضي، لا يخدم أي غرض ولا ينفع في توضيح الأصول التي لا تتطلب توضيحاً، بل تفترض بحثاً عن القواسم المشتركة مع الاخر، او مع الاخرين جميعا، من دون المجادلة في الدور التأسيسي للكيان الوطني على طريقة موارنة لبنان، او في الغالبية والاقلية على طريقة سنة سوريا او شيعة العراق.

أنه نص هذياني خالص، لا يختلف في جوهره عن النصوص الهذيانية التي تكتبها هذه الايام مختلف الطوائف المشرقية، التي فقدت المقدرة على الحد الادنى من التعايش، فانطلقت من صفوف السنة أسطورة الخلافة ودولتها المزعومة، وشن غلاة الشيعة حملتهم الحسينية وأعلنوا ثورتهم المهدوية، وقرع المسيحيون في كافة ارجاء المشرق أجراس الانذار من حرب الابادة.

محيرٌ فعلا ذلك التركيز في النص على ان العلويين طائفة عرفانية، وهو ما يعني حسب جميع الأسس والشروط والمصطلحات، أنهم فرقة صوفية، وهو ما لا يعيبهم ولا ينتقص من قيمتهم أبداً، لا سيما وأن الشيعة يسيرون في هذا الاتجاه.. أو ذلك التشديد على أنهم اكثر ميلاً الى العقل الشيعي من النقل السني، ثم اعلان الافتراق التام عن الشيعة، الذين لا بد انهم شعروا بطعنة في الظهر من أقرب حلفائهم في مواجهة المد السني الجارف. لعله كلام سياسي ليس إلا ، لا ينم عن ثقافة فقهية ولا عن معرفة دينية عميقة، يجامل السنة بشكل موارب، لكنه يفك الحلف مع  الشريك الشيعي، الايراني واللبناني والعراقي، الذي صار مستعداً، في خطابه وفي سلوكه المذهبي، للاندماج في أسس التصوف العلوي، والمضي حتى النهاية في أكذوبة العلمانية التي يلوح بها في وجه السنة. 

إذا شاء العلويون ان يسموا أنفسهم طائفة، فهذا شأنهم، وهذا مطلب حق وعدل، لكنه لا يستقيم مع أحجام الطوائف الاخرى ولا مع مطالبها أو تطلعاتها. العدالة الطائفية هي عبوة ناسفة لاي اجتماع وطني سوري لاحق، وهي مهزلة يشهد عليها السيرك الطائفي اللبناني، ولا تنتج إلا سلسلة لامتناهية من الافكار المدمرة للوطن وللطائفة وللمذهب، ولأي لقاء مختلط مهما كان متواضعاً.  

 

لا يمد النص يد المصالحة او حتى الحوار، بل هو كأي نص ديني، يناور، يساوم، يناقض نفسه، يستدرج الاعتراف من الاخر، من دون ان يجري أي مقاربة جدية لتجارب الطوائف الاخرى وانحداراتها الاخيرة، ولا لتجربة الوطنية السورية وانفجاراتها الراهنة، ولا طبعا لتجربة العروبة التي كانت دمشق قلبها النابض، حسب الشعار الاثير، والمفتعل. 

 

لا يمكن الجزم في ان النص يقطع مع النظام، بل هو يبحث عن مخرج منه، وله. ولا يمكن الظن في انه الوجه الاخر لوثيقة الفيدرالية الكردية الصادرة أخيراً..

 

ثمة هذيان مشرقي عام، لا يستثني أحداً، ولا يعفو عن أحدٍ.