لطالما اشتكى المسيحيون في مطلع تسعينيات القرن الماضي من فقر واضح أصاب الساحة المسيحية في قياداتها، فالتيار العوني الصاعد يعاني من نفي قائده الجنرال ميشال عون في فرنسا، والرئيس أمين الجميل في منفى اختياري بعد ضمور الدور الريادي لحزب الكتائب، وتلقيه تهديدات شتى.

امّا قائد القوات اللبنانية سمير جعجع فقد بات أسير السجن الانفرادي في وزارة الدفاع، بعد حل حزب القوات والحكم عليه بالإعدام، مع تخفيض العقوبة إلى الأشغال الشاقة الدائمة، ورغم مقاطعة المسيحيين عامة لانتخابات عام  ١٩٩٢ ، فقد التئم المجلس النيابي تحت الوصاية السورية رغم فقدان التمثيل المسيحي، ولم ينبس أحدٌ تلك الأيام بكلمة عن "الميثاقية المفقودة"، والمقصود بذلك الشريك الإسلامي المفترض مع الشريك المسيحي، رغم تصاعد لهجة البطريركية المارونية، الممثلة تلك الأيام بالبطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وقد شهدت تلك الفترة أحداثاً هامة، لعلّ أبرزها دخول رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري حلبة المسرح السياسي، والذي طبع بشخصه ومشاريعه وتحالفاته  ومناوراته المشهد السياسي اللبناني طوال خمسة عشر عاماً، ثم ما لبث أن حلّ العام ألفين ليرتاح لبنان من وطأة الاحتلال الإسرائيلي لمناطق واسعة من جنوبه، وغياب الرئيس حافظ الأسد، وصعود ابنه بشار الأسد إلى سدة الحكم في سوريا.

واستمرت الشكاية بعد ذلك، وتصاعدت مع اجتماعات خلوة سيدة البير، وبإشراف البطريرك نصير، مطالبة بانسحاب القوات السورية بعد إنجاز الانسحاب العسكري الإسرائيلي، وفي هذا الخضم تتالت صيحات المطالبة بعودة القيادات المسيحية الفاعلة، وعلى رأسهم الجنرال عون من منفاه، والدكتور جعجع من سجنه. وساد شعور عام أنّه بدون هاتين الزعامتين لن تقوم للمسيحيين قائمة بعد أن تربّع الرئيس بري على كرسي المجلس النيابي، واحتكار المناصب الوزارية الهامة، وكذلك فعل السُّنة بتربّع رفيق الحريري على كرسي رئاسة مجلس الوزراء، ونفوذه إلى المناصبب الوزارية الحساسة، والمواقع الإدارية الهامة، فضلاً عن إمساكه بورقة إعادة الإعمار ، وفتح أبواب المديونية العامة على مصراعيها، في حين بات رئيس الجمهورية الماروني رهين المحبسين: الوصاية السورية والهيمنة الحريرية.

وتتالت الأحداث بعد ذلك، فخرج جعجع من السجن بعفوٍ خاص، وعاد الجنرال من منفاه بمساومات متعرجة، لعلّ أبرزها مع نظام الوصاية السورية، ثمّ حدثت أحداث مأساوية وتاريخية، فقد تمّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام ٢٠٠٥، وتلاه انسحاب سوري بعد انتفاضة ١٤ آذار الشعبية، ليجد اللبنانيون أنفسهم ، وللمرة الأولى أمام مسؤولياتهم في تسيير دفة الحكم والسلطة. اليوم ، وبعد أكثر من عشر سنين من الاستقلال عن الوصاية السورية، واكتمال عقد الزعامات المسيحية الممثلة بالاقطاب الأربعة: عون وجعجع والجميل وفرنجية، يقف المسيحيون حائرين من عُقم انتخاب رئيس جديد للبلاد، منذ حوالي العامين، واستقرّت العقدة الرئيسية عند من كان يعتبره المسيحيون خشبة خلاص،الجنرال عون، صاحب التيار الوطني الحر، وإذا به أسير عقدة تسلطية، وأسير تحالفه وتفاهمه مع حزب الله، ثمّ ما لبث أن وقف إلى جانبه عدوه اللدود قائد القوات اللبنانية، لتستحكم عقدة الرئاسة بين يدي من كان يتطلّع المسيحيون إليهما في مقدمة حماة لبنان واستقلاله وسيادته وحريته، وإذا استمرّ هذان الزعيمان في انتهاك الدستور، وتهديد لبنان بمصيره ووجوده ككيان ونظام، فلربّما يأتي يوم ما ، ينهض فيه المسيحيون ليقولوا: ليت العائد من المنفى بقي في منفاه، وليت المسجون أكمل عقوبته في سجنه.