لا أريد الحديث عن ذمِّ القرآن الكريم للمترفين والمنعمين في الأرض ، ولا عن زهد الأنبياء والأوصياء وإنكارهم للترف والنعيم على حساب المعذَّبين والمستضعفين والمشرَّدين في أقطار الأرض...ولكنني أريد الحديث بكلمات يائسة وبائسة علَّها تهدي إلى الذين ينعمون ويدَّعون أنهم أمناء الخلق ، ليس بغضاً وحسداً في ترفهم ، ولا تمنيَّاً لصرف وزوال النعمة عنهم ، فقد تحدَّث الحكماء منذ الزمن الأول بأنَّ الرجل الحازم خليق الاَّ ينظر إلى الذين يتفوقون عليه ، فتملأ قلبه حسرة ولوعة ، ويثقل نفسه بالهمِّ والحسرات والغمِّ والويل والثبور وعظائم الأمور..

لأننا نجد في سيرة هؤلاء المترفين من ولاة ودعاة ووعَّاظ دين ودنيا ، فضلاً عن الحكَّام والسلاطين ، إنما يأتيهم ذلك كلُّه بحكم القضاء المكتوب ، والقدر المحتوم ، ولا مردَّ ولا سبيل إلى تغيير القضاء أو تبديل القدر وإلغاء سنة السماء في الأرض ، وهذا خلق الله تراه منقسماً وتسوده التفرقة والتمييز ، تحت آيات الرحمان وفضَّل بعضكم على بعض.. وهي إستمرار الحياة خادم ومخدوم ، ورئيس ومرؤوس ، وآكل ومأكول ، وكبير ذات شأنية وصغير وضيع ليس له حظ وشأنية سوى أنه وُلد من بطن فقير..فترى المترف يطغيه الترف ، والمتخم تقتله التخمة ، والمُنعَم تبطره النعمة ، والمحروم يأسره الحرمان ، والفقير يذلُّه الفقر واليأس...

هنا لا أصنِّف نفسي ولا أبرأها لأنَّ النفس أمَّارة بالسوء إلاَّ ما رحم ربي.. ولأنني أكره أن أكون بين هذا وذاك منزَّهاً عنهما ، وهل عُرضت عليَّ دنيا السلطة والسلاطين والوعَّاظ منهم ودنيا هارون الرشيد ورفضتها ، ربي لا تكلني إلى نفسي لأنني لا أريد أن أكون ثعلباً يختال الناس بدينه وجُبَّته كالذي يحاول إصطياد العنب وأكله فإذا لم تتح له الفرصة يقول بحصرميته..أو المثل الشعبي " تريد أكل العنب أم تريد قتل الناطور " جلَّ ما أريد الحديث عن  البائسين في وطني والمقهورين والمشَّردين في بلدي ، الذين ألبسهم الوباء ومسَّهم الضرُّ حين يخطف الموت ريعان شبابهم وأولادهم ، لأنَّ الفقر ليس من صنع السماء ولا من صنع الطبيعة ، وإنما هو من صنع الإنسان والأنظمة المستبدَّة والحكومات الفاسدة المفضية على شرعيتها لبوس السماء وأخرى مصالح الشعب..فلو تشجَّعنا قليلاً وسألنا أنفسنا بروية عن ما ورثناه ، وتسألنا عن سببه ومصدره وما الفائدة منه وعن سبب فقرنا والركود والخنوع ،وعن تأخرنا وضعفنا من دون خوف هو أن نُرهن نفوسنا لإنسان ليس نبيَّاً ولا وليَّاً معصوماً ليكون له الطاعة والإمرة تحت عناوين دينية وسياسية ، لأنَّ المصلحة لا يمكن لأحد غيره تشخيصها فتكون حياتنا ومصيرنا وحياة أولادنا ومجتمعنا رهينة له ، ناسين أنَّ الله تعالى قد وهبنا نعمة العقل ونعمة التفكير ونعمة الحرية ، فلا يحقّ لأحد من الخلق أن يصادر عقولنا وحريتنا وولايتنا على دمنا وعرضنا ومالنا ومصيرنا السياسي تحت أي مبرِّر ديني أو سياسي..

أيها الغافلون غير المغفول عنهم ، والتاركون المأخوذ منهم ، كما وصف ذلك أمير المؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة " كأنكم كالإبل أراح بها سائم إلى مرعى وبِيٍّ ، ومشربٍ دويٍّ ، إنما هي كالمعلوفة للعِدى ، لا تعرف ماذا يُرادُ بها "..فالفقر وليد فقهٍ وثقافة تجاوزت مبدأ المساواة وهي تقوم عند تلك الطبقة على التمييز والإمتيازات على أساس ديني وعرقي ومذهبي وحزبي في توزيع الثروات التي أجراها ربُّ العدل في الأرض والسماء التي لا تُعدُّ ولا تُحصى...وقال (ع) لواليه على مصر مالك الأشتر " يا مالك لا تكوننَّ عليهم سِبُعاً ضارياً تغتنم أُكُلُهم ، فإنهم صنفان : إما أخٌ لك في الدِّين أو نظيرٌ لك في الخلق ".