في إطلالة سريعة وبدون عناء على واقعنا في هذا الشرق، الذي يختزن تعددا في الدين والعرق والمذهب والطريقة والإتجاه، في السياسة والثقافة والعادات والتقاليد والأعراف. وفي ظل انكفاء الدولة الناظمة بالفهم الحديث لها، والدولة السلطانية بالفهم التاريخي لها وفي لحظة الدعوات الإحيائية للإسلام السياسي وبعد سنوات طويلة من الحكم المتعثر في بناء الدولة ذات الإتجاهات القوميهوالأمميه والعلمانية، نجد أنفسنا،أفرادا وجماعات نشعر بالقلق، ولربما بالذعر أحيانا، أمام كمية المشاكل التي لم تسعفنا حركة التاريخ على تلقيها وتنقيتا موزعة على حقبه، ولعل الإنسداد التاريخي والفلسفي في الأزمنه الغابرة، قمعت الفكر والمفكر من الولوج في دراسة وتحليل وتفكيك الموروث وتقديم الرؤى، والعمل على حل العقد واحدةً واحدة، حتى تجمعت كلهاأمامنا اليوم في عصرنا الحاضر، ومنها :  

أزمة النهائيات والقطعيات واليقينيات في فهم النص الديني والوقوف عندو حدود السلف في فهم الدين وشرعية السلطة .

_ أزمة الفرد ومكانته أصلا أو تابعاً، مع السلطة وحدود صلاحياتها، وأساليب إنتاجها وشرعيتها، التي لازالت الغلبة تمدّها بالشرعية، حتى لو لم تستجب إلى أبسط قواعد العقل والمنطق والفهم الحديث للكون والإنسان .  أزمة القانون وفقهه ومنطلقاته والدستور ومجاملاته . أزمة الحرية الدينية والسياسية والشخصية، أزمات وأزمات، ليس آخرها ولا أولها التعددية وسوء إدارتها، موضوع مؤتمرنا هذا، الذي نتشرف بشراكتنا لإنجاحه وإقامته مع مركز" كونراد أيدناور" ذي الخلفية الثقافية الالمانية،والتجربة الضاربة عمقا في مستقبل التاريخ وتاريخ صناعة المستقبل .  

  أوروبا أيها السادة وتجربتها ماثلة أمامنا والتي مرت ببعض الصور التي يمر بها شرقنا الاسلامي والمسيحي وبكل مكوناته اليوم والذي كان من المفترض أن نبدأ في علاج قضايانا المعرفية وفتح باب العقل على رحابة التفكير والفكر، منذ القرن الرابع هجري، عندما قمع السلطان والكاهن " الفقيه" الحركة الفكرية الفلسفية التي كان من المفروض أن تحدث  تحولاً تاريخياً .  تأخرت حركة التاريخ في الشرق، ونحن اليوم لا بد من أن نستعين بكل تجارب الأمم والشعوب، لنرى  كيف حلّو  مشاكلهم وبنوا دولهم القائمة على أرقى معايير التنظيم البشري في كل اتجاه، وحفظوا للدين مكانه، وللعقل مكانه، وللدولة مكانتها  وهنا يأتي السؤال هل استطعنا حلّ مشكلةٍ واحدةٍ من مشاكلنا المكدسة أمامنا؟

والتعددية بسوء تنظيمها وإدارتها من أعظم مشاكلنا ؟ . كيف استطاعت أوروبا تنظيم إدارة التنوع حتى أصبح من اليسر أن يصل إلى رئاسة الوزراء أو الجمهورية أقلويا بروتستنتيا في فرنسا ذات الأغلبية الكاثوليكية؟ أو كاثوليكيا في ألمانيا ذات الأغلبية البروتستانتية؟ وقد كان في يوم من الأيام ينتشر التكفير بين المختلفين في الإنتماء، كيف حلت أوروبا مشكلة الحرية في المعتقد؟ وقد كان في يوم من الأيام قبل عصر التنوير ينحصر التفكير في الكنيسة، ولا يمكن لأحد التفكير خارج فهم رجال الدين ألم يحاكم غاليلو ويحكم عليه بالإعدام لمجرد أنه قال أن الأرض كروية ؟

وهو غير الفهم الكنسي للكون . لو لم يتوفر لأوروبا مفكرين وفلاسفة متنورين، طرحوا علمهم دونما توظيف وبدون استثمار، بل كان طرحهم في بعض الأحيان يكلفهم حياتهم، لما وجدنا أوروبا اليوم تصل إلى هذه الدرجة الراقية في تنظيم دولها وشعبها . لو لم نجد إصلاحيين في الكنيسة أمثال مارتن لوثر وآخرين آمنوا بأن الإنسان هو الأصل وأن السبت جُعل من أجل الإنسان، ولم يُجعل الإنسان من أجل السبت، وحققوا في أن الحرف يقتل، وأن الروح تُحيي  وحافظوا على الدين بإبعاده عن السياسة، وأبعدوا السياسة عن الدين، لأنها أمر بشري، لكان الفساد في الدين والسياسة هو السائد كما نعيشه اليوم في عالمنا المشرقي .

أيها السادة ...  إن الدراسات الاجتماعية والسيكولوجية والطبيعية، أثبتت أن التنوع والتعدد، ثروة المجتمع، وسبب غناه، وشرقنا الذي يتسم بهذه الخاصيه  كنز لا يبور إذا ما أُحسن تدبير أمره وتنظيم موارده. في التشكيلات الأولى للإجتماع البشري كانت العائلة والعشيرة والقبيلة، وكانت النجابه في اختيار العرق للإنجاب محل اهتمام، فكان الذهاب للأبعدين في اختيار الأم دعوة لإصلاح النسل والنسب .

وكان المجتمع الزراعي يوصي بتغيير البذار، حتى ولو من الجار، وسيلة في تحسين الإنتاج . كل ذلك سنّه الله في الخلق وناموس من نواميس الطبيعة الخلاقة، فالتعددية أيها السادة، جمال طبيعي بحدّ ذاته وإن كثيرا من العقلاء يأنفون عن الإقامة في البيئة الواحدة والجماعة الواحدة، كل ذلك لأن الإقامة بها تصبح تكرارا غير محسّن بل وغيرمنتج . جمال لبنان بأنّ فيه أدياناً متعددة، وطوائف متعددة، وأحزاباًمتعددة. لقد ارتكزت قيمة لبنان على تمسكه بالديمقراطية ومقتضياتها، وخصوصا الحرية الفردية والمساواة واحترامه للنوع والتنوع، إن أهمية ذلك يأتي في ظل حاجة العالم العربي الى نموذج يحتذى به في مجال إدارة التعددية بعدما أفرزت الانتفاضات العربية في عدد من الدول الحاجة الى الحفاظ على هذه التعددية .

وقبح لبنان  يظهر في عدم تنظيم هذه التعددية الخلاقة وسحق المشاركة بوهم الغلبة والدعوة إلى رفض الآخر وأبلسته والتخويف به ومنه ليسهل على الساسة إنتاج الأوهام التي تمكنهم  من البقاء في امتيازاتهم . إننا أمام المشهد الممتد من أفغانستان الى باكستان وإيران وتركيا، وصولا إلى العراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس والسودان، واليوم أمام مشهد فردٍ يتصل بنا، يصل إلى بلجيكا أو فرنسا، حاملا معه أحزمه  بؤسه وعجزه وقهره، لينفجر بها في المكان الخطأ والزمان الخطأ ، تصبح وظيفتنا أشد تعقيدا وأكثر إصرارا على السير قدماً على أن نرتقي بنمط عملنا من العفوية إلى المؤسساتيه ومن الموسميه إلى الدوام، ومن المجاملة إلى المصارحة .

ويبقى أن أمرا لا بد من البحث فيه اليوم، أو غدا وهو إلصاق التهم لأدياننا ومذاهبنا عما جرى ويجري، ونعتمد على إزالة الشبهة عن ديننا، بمواقف صريحة من كل مرجعيات المسلمين التي دانت وتدين وتتبرأ من كل أنواع القتل المجاني، الذي يقوم به أفراد أمّيون بمعرفة الدين ومقاصد شريعة الاسلام،لكن هل يكفي هذا الموقف عند كل حادث تفجير أم أن علينا أن نخرج من أيدي الجهلة والهواة كل أنواع المواد شديدة الإنفجار المتمثلة بالنصوص غير المثبتة من التراث التي تأخرنا في نزع فتيل التفجير من بين ثناياها؟

أم نعترف  بأنّ هناك  من الأحداث والأفعال والأقوال الموروثة والمستجدة ما يصلح أن يكون دليلاً لاثبات  التهم ضد ديننا وفهمنا وثقافتنا  وإن القوى السياسية التي تقود الصراع، أو تشارك فيه ميدانيا، تقدم كل يوم دليلا إضافياً على أن أدياننا ومذاهبنا هي البيئة الحاضنة لعوامل الشقاق والصراع والعنف والإرهاب، بحيث تصبح  جهودنا  ومؤتمراتنا مسكنه  للآلام في لحظة تفشي سرطان الإرهاب والعنف والإلغاء .

أيها السادة  .... أخشى أن مضمار المنافسة مع الإستبداد يضعف الهمة، وقلة المؤونه  تهزمنا . وأمام تغوّل وحش الإرهاب وتسطيح المعرفة وعلوّ الصوت في الغلو هل يخرس صوت الإعتدال ؟   هل نستطيع في لحظة انفلات آلة القتل أن نبقى متشبثين في مشتركاتنا الموجودة في تراثنا وهي أكثر من كل ما يفرق؟  وأن نوسع مساحة السلام بين الأديان والإتجاهات؟ وأن نتشبث به أصلا وليس استثناءً فهل يمكن أن نطمع لتأسيس أطروحة حضارية وثقافية مشتركة تتكافأ فيها الأطراف المشاركة بها لا على أساس القوة والثروة أو الكثرة أو القلة ؟ بل على أساس القوة العادلة التي تلزم التعددية والمشاركة، سبيلا للإندماج في مشروع الدوله  المدنية، دولة المواطن التي يتساوى أمام قوانينها كل أصحاب الإتجاهات والديانات والطوائف والمذاهب .