إمتاز أداء الرئيس الأميركي باراك أوباما بليونة كبيرة في تعاطيه مع قضايا العالم وهو بذلك يترجم شعاره الذي تبناه في حملته الإنتخابية الأولى:" التغيير". لم يصدق كثر نية الرئيس الديمقراطي في العمل بهذا الشعار ولكن ولايتين رئاسيتين للرجل طغت عليهما سمات التغيير في كل ملف تعاطاه وكل خطر واجهه.

واحد من هذه الملفات كانت القضية الكوبية وهي من القضايا التي واجهت الإدارات الأميركية السابقة وكان لها وقع على الداخل الأميركي. تبنت كوبا الخيار الشيوعي منذ نجاح ثورة الثنائي فيدل كاسترو وتشي غيفارا. وكرس كاسترو الحكم الشيوعي وآمن به أكثر من السوفيات أنفسهم فكانت كوبا قاعدة سوفياتية متقدمة في صراع الحرب الباردة التي كانت مندلعة بين العملاقين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية خصوصا مرحلة ما تعرف بأزمة الصواريخ الكوبية. فتعاملت أميركا مع هذا التحدي والخطر بحساسية وخاضت مع كوبا نزاعا مريرا كان أبرزها واقعة خليج الخنازير والتخطيط لإغتيال كاسترو بالإتفاق مع المافيا في شيكاغو.

ومع عجز أميركي عن تغيير هوية النظام والنظام ككل في كوبا لجأت إلى خيار العقوبات الإقتصادية والعزلة التي فرضتها على كوبا وبدأ برنامج النمس التابع لوكالة الإستخبارات الأميركية.

طوال فترة العقوبات الإقتصادية تدهور الإقتصاد الكوبي وتدحرجت الدولة إلى مستويات الفشل وتهدد أمن النظام الداخلي ولكنها بقيت مزعجة لأميركا. لم يكن خيار فيدل كاسترو بالشيوعية إيمانا مطلقا بقدر ما هو وسيلة لإزعاج هيبة الرأسمالية العالمية المتمثلة بأميركا.

لذلك وسعت كوبا مروحة علاقاتها لتصل إلى روسيا وإيران وسوريا وهذه دول خارجة عن الإرادة الأميركية بالعرف الدولي، وخصوصا أن كاسترو أعلن أن ثورته أممية فواجه السياسة الأميركية في العالم كدعمه ل 17 حركة يسار تحررية في أفريقيا لإسقاط الحكومات اليمينية فيها كالجزائر وزائير وحتى اليمن وكان عراب هذه الحركات غيفارا الذي وجد نفسه مخلصا لشعاراته في تلك الميادين.

وتعتبر تجربة نيكارغوا في أميركا الجنوبية أنجح تجربة عملت عليها الحكومة الكوبية لإسقاط حلفاء أميركا إلا أنها فشلت في الدومينيك. ولم تقتصر علاقاتها المقاومة في أميركا الجنوبية بل وصلت إلى قلب آسيا كالصين الشعبية التي تعتبر من أهم مصدري المواد لكوبا. تطورت أيضا العلاقات الكوبية الإيرانية وخصوصا في مرحلة الإجتياح اليساري الذي كسح أميركا الجنوبية حيث وصل العديد من الرؤساء المعادون للسياسية الأميركية إلى سدة الحكم كفنزويلا وبوليفيا. وأصبح تحالف هذه الدول مجتمعة مصدر تهديد للحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية.

وسط هذه المعطيات كان خيار التغيير الذي تبناه أوباما شعارا ومبدءا لسياساته في الحكم. كانت كوبا محط أنظاره وهدفه المقبل بعد الإتفاق النووي مع إيران. فمن مصافحة مقصودة مع الرئيس الكوبي راؤول كاسترو وارث أخيه المريض فيدل والتي كانت إشارة واضحة بأن أوباما جاد في إغلاق هذه الصفحة السوداء مع كوبا وإعادة العلاقات الطبيعية معها ،كان أوباما يمارس سياسته المهذبة مع كوبا ليعيدها إلى الحضن الأميركي أو على الأقل يحقق مستوى أمان معها على قاعدة علاقات حسن الجوار معها علما أن أميركا تحتفظ بقاعدة جوانتانامو تبعا لتعديل بلات المتفق عليه مع كوبا في أوائل القرن العشرين. زار أوباما كوبا وأخذ الصور مع الكوبيين تحت صورة غيفارا وملأت صوره هافانا. كانت الزيارة محطة ليبنى عليها علاقات ندية ومستقبل واعد بين الدولتين.

لكن التطرف في السيريالية قد يعمي عنا بعض الحقائق. لذلك لا بد من التنويه أن أميركا كانت ولا تزال تجد بعصا العقوبات وسيلة لتحقيق أهدافها. فمن بوابة الإقتصاد وقع الإتفاق النووي مع إيران ومن بوابة الاقتصاد أيضا حصلت المصالحة مع كوبا.

وعلى الرغم من بعض الإختلافات الجذرية بين البلدين إلا أن أوباما نجح في تبييض الصفحة مع كوبا وإعادة العلاقات الطبيعية معها ورفع العقوبات قريبا عنها في براغماتية ذكية لا يتقنها إلا الأميركيين وهو يريد تحقيق هذا الإنجاز قبل نهاية ولايته.

وهكذا إتفاق ما كان ليحصل لولا حجم الإنهيار الذي أصاب الإقتصاد الكوبي فالسكر وهو النسبة الأكبر من صادرات كوبا تراجعت نسبته لحدود 10% ولم تعد تكفي آلاف براميل النفط من بوليفيا وفنزويلا مقابل الأطباء الكوبيين لمعالجة الأمر.

لذلك الصراع اليوم أبعد من إيديولوجيات وعقائد بقدر ما هو صراع على المصالح والسياسات الإقتصادية وآخرها الإكتشافات النفطية في كوبا ورغبة الشعب الكوبي بالإنفتاح على العالم حيث سجلت نسب متدنية لإستخدام الإنترنت والكمبيوتر في هذه الدولة والرواتب الشهرية للموظفين تلامس 20$ فقط .

بوادر المصالحة ظهرت بدخول Google إلى السوق الكوبية وإتجاه لتطور العلاقات بين البلدين مع تواجد أكثر من مليون كوبي داخل أميركا. هذا ما حصل فوق الطاولة أما تحتها فالأيام كفيلة بإخبارنا .