ما زال الوقت متاحاً للتراجع عن ذلك القرار المفاجىء والمحزن، الذي يدفن جريدة كبرى من دون تشييع، وينهي فصولاً من الذاكرة من دون وداع. ما زال الامل متاحاً بأن تبقى “السفير” وان تورّث، وربما ان تخلّد.

النهايات كلها صعبة، لكن أصعبها تلك التي تحل في الاربعينات، في منتصف العمر، مع انك تعرف ان الصحف تظل شابة حتى في الثمانينات، وهي لا تشيخ الا بعد المئة. ما زال من عمر “السفير” بقية، وما زال من فريقها الكثير من الشباب الذي لم يكمل فرصته. مهلاً يا أبا أحمد. لا تتوقف عن الصدور نهائياً. ما زال الفضاء الالكتروني رحباً وواعداً، وما زال ينتظر ان تنضم “السفير” اليه بقوة، لا أن تبقى شاشتها صورة متسرعة ومبتسرة عن النسخة الورقية، التي كان يجب ان تتوقف طباعتها منذ سنوات عديدة، حرصاً على الميزانية، وعلى البيئة في آن.

  لم يعد الصدور الورقي مجدياً، ولا مؤثراً. تحولت الجريدة، أي جريدة، الى عبء فعلي، لا منطق لقراءتها بالحبر الاسود، بينما هي متاحة بالاضواء والالوان. صارت مثل ستارة عتيقة يتخفى خلفها القارىء او يحتمي بها من نور الشمس، فتحترق أوراقها المبعثرة بنار السيجارة، او تسقط وتتبلل في فنجان القهوة. لم يعد لها أي معنى، ولا اي نكهة سوى الضرر الصحي الناجم عن رائحة الورق الاسمر الكريهة او كيمياء الحبر المؤذية.

منذ زمن بعيد، ذيلت شاشات الكومبيوتر بتلك العبارة المقدسة التي تدعو القارىء الى تجنب استخدام الطابعة الا عند الضرورة القصوى، صوناً لموارد كوكب الارض وحفاظاً على الطبيعة والاشجار. ومنذ زمن ليس بقريب، تسارعت عمليات انتقال صحف العالم الكبرى من الورق الى الضوء، الذي يتوقع ان يكتفي به القراء في كل مكان في أقل من عقد من الان.

آن ل”السفير” ان تخطو بثبات تلك الخطوة السهلة جداً، بدل ان تنعي نفسها وتعزي أسرتها الداخلية وتسير في تشييع لن يحضره أحد من قرائها الذين ما زالوا يتابعونها على شاشاتهم المختلفة، ويترقبون تحديثها وتطويرها بما يتماشى مع روح العصر ويتلاءم مع الانتشار اللامحدود الذي توفره شبكة الانترنت الخارقة.   

اذا كان ثمة أزمة مالية، وهو ما ينفيه جميع الممولين والشركاء، فان الانقطاع النهائي عن الصدور، لا سيما الالكتروني، يعني في حده الادنى إسدال الستار ، بل اطفاء الاضواء على تجربة عريقة، وإسم محترم، ودور مؤثر، وهو ما لا يمكن تعويضه بالعودة المفترضة الى الفضاء الرقمي بعد أشهر كما قيل. فذاكرة قارىء اليوم لم تعد بقوة ذاكرة قراء زمان، الذين لا يمكن ان ينسوا كتابات “السفير” وعناوينها ومعاركها تحدياتها القديمة. قارىء اليوم لن ينتظر هذه المدة، بل ربما لن يلاحظ ان “السفير” الالكتروني المقبل هي مجرد إمتداد لذلك التاريخ الطويل.

ليس ثمة أزمة مالية تستدعي الاحتجاب التام، بل ثمة تحديات سياسية تفرض الصمود وتدعمه. فالمحور الذي يبدو اليوم أنه متهم بالتخلي عن “السفير”، لم يسقط بعد، وهو ليس بأسوأ حال من خصومه. ما زال نظام الرئيس السوري بشار الاسد بحاجة ماسة الى جريدته، وما زال الحكم الايراني يعبر عن الوفاء والتقدير لحلفائه اللبنانيين جميعاً، وما زال حزب الله يقاتل على اكثر من جبهتين، وهو لن يجد مثل “السفير” سنداً. أما “عاصفة السوخوي” الروسية حسب العنوان المبتكر والمشين ل”السفير”، فإنها ايضا ما زالت تضرب في سوريا وتنتظر ابتكارات “سفيرية” دائمة.

على الرغم من سقطات السنوات الاخيرة ، فان تاريخ “السفير” لا يمكن ان يشطب بهذه الطريقة المتسرعة فعلا، ولا يمكن ان يستبدل بأي من الصحف او الشاشات الوليدة التي تعبر عن ذلك المحور العاق بحق جريدة كانت مدرسة وعقيدة وفكرة وكتابة لن تسقط من الذاكرة. الفضاء الالكتروني لامتناهٍ، و”السفير” قادرة ومؤهلة للاضاءة فيه، بدل الانطفاء على هذا النحو المحزن.