في أواسط القرن الماضي، انطلقت في الوطن العربي حركة تحرر قومية عربية تزعمتها مصر بقيادة جمال عبد الناصر،وحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق وسوريا، وإذ تصدّت هذه الحركة لتصفية آخر مواقع الاستعمار في المشرق العربي ومغربه، تزعمت المملكة العربية السعودية محور الممانعة والمجابهة مع هذه الحركة، وبرزت تجليات هذه المجابهة باحتضانها حركة الإخوان المسلمين، الذين وجدوا في المملكة الملاذ الآمن، والتمويل اللازم، إلاّ أنّ الحركة القومية ما لبثت أن اُصيبت بهزيمة ماحقة عام١٩٦٧ ،على يد إسرائيل التي احتلت أجزاء هامة من الأراضي العربية في مصر وسوريا والأردن والضفة الغربية من فلسطين وغزة. بعد حرب أكتوبر عام ١٩٧٦ ،كانت المملكة رأس الحربة في مواجهة الغرب بقطع إمدادات النفط، ممّا أسفر عن ارتفاع حاد في أسعاره، أضفى بعد ذلك إلى ما دُعي بالوفرة النفطية، وترافق ذلك مع تلاشي قوى الحركة القومية العربية،على يد الثورات المضادة في مصر مع الرئيس السادات وفي سوريا مع الرئيس حافظ الأسد، وفي العراق مع الرئيس صدام حسين. وغزت ظاهرة "البترودولار" المنطقة العربية والإسلامية، وكانت أبرز تجلياتها نشر الفكر السلفي الإسلامي، والتي أُطلق عليها فيما بعد مصطلح الصحوة الإسلامية، وتبجّح الاسلامويون فيما بعد بأنّ الحركة القومية فشلت وتسبّبت بالهزيمة واحتلال الأرض من قبل الصهاينه، ورفعوا تاليا شعار، الإسلام هو الحل. ثم ما لبثت الصحوة أن "فرّخت" حركات التكفير والهجرة المتشددة، فنشروا التخلف والرعب في ارجاء العالم العربي، وبعد ذلك الخيبات، فاستقرّ الاستبداد في ظل هيمنتهم، وساد الفساد في أحضانهم وعلى مرأى عيونهم، حتى جاء الربيع العربي، فتهاوت أنظمة الاستبداد، ليخرج الاسلامويون مجددا في مصر والعراق وسوريا وليبيا وتونس، فأطاحوا بفرحة الانتصار على الاستبداد، وزرعوا المنطقة من جديد رعباً وفوضىً وتخلفاً. أين تقف المملكة السعودية اليوم من مجمل هذه الأحداث ونتائجها؟ فقد ظلت المملكة سادرة في نعمة نفطها وسيادتها على موسم الحج، واكتفت بتصدير الدعاة،والفكر السلفي، وبعض المساعدات المرتبطة بالكوارث الطبيعية ،أو الإعتداءات الخارجية، ولم يتمكّن الحكام في الداخل من خدش الهيبة الدينية لرجال الدين، الذين ما فتأوا على فتاويهم وتحجرهم، حفاظا على امتيازاتهم، وخوفا على سلطتهم، ولم يتنبّه حكام السعودية للأهمية الجيو_سياسية لليمن والعراق وبلاد الشام، وحتى بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على احتلال الكويت، فما زالت السلبية والارتجال يحكمان سياسة المملكة اتجاه هذه الدول، في حين راح النفوذ الإيراني يرسخ أقدامه في لبنان وسوريا والعراق والبحرين، حتى وصل هذا النفوذ إلى داخل المملكة نفسها، وتضافر ذلك مع مخاطر القوى الجهادية التكفيرية، التي ساعد على انتشارها في المنطقة اضطراب النظام في العراق وسوريا وليبيا ومصر، وهي اليوم تقلب ظهر المجنّ للنظام السعودي، ليجد حكام السعودية اليوم أنفسهم بين فكّي كماشة النفوذ الإيراني من جهة، وانفلات الحركات الجهادية من عقالها. وما زالت المناورات الضخمة في حفر الباطن اليوم، رعد وبرق حتى الآن، أمّا الغيث فعلمُهُ عند الله، وعند الحكام الذين إن وصلوا متأخرين، خير من أن لا يصلوا أبدا.