نشأ وجوب التقليد (بحسب فقهاء الشيعة) من حاجة المسلم إلى معرفة معالم دينه وأحكام عباداته ومعاملاته، فهو يحتاج إلى خبير في الشريعة يثق به، يفتيه في ذلك. وعندما يختلف الفقهاء في الاستنباط، يجب عليه أن يرجع إلى الفقيه الأعلم. قال السيد الخوئي: "يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط، ويجب الفحص عنه... المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطلاعًا... وأجود فهمًا للأخبار، والحاصل أن يكون أجود استنباطًا. والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط... لا يجوز تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم، كما أنه يجب على غير المجتهد التقليد، وإن كان من أهل العلم. يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني، كما إذا كان المقلد من أهل الخبرة وعلِم باجتهاد شخص. وكذا يعرف بشهادة عدلين من أهل الخبرة، إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة، ينفيان عنه الاجتهاد. وكذا يعرف بالشياع المفيد للعلم. وكذا الأعلمية تعرف بالعلم، أو البينة غير المعارضة، أو الشياع المفيد للعلم"[1]. فالمكلَّف يبحث عن الفقيه الأعلم بسؤال العلماء الذين يثق بخبرتهم وتقواهم وعندما تتعارض الشهادات عنده يُرجِّح تقليد من يطمئن إليه أكثر، أو يتخير أحد الذين تدور بينهم الأعلمية. ويتمُّ التقيد بأن ينوي الرجوع إلى فلان المرجع في ما يحتاج إليه من أحكام، ويأخذ رسالته العملية ليعمل بفتواه في صلاته وعباداته ومعاملاته، ويرجع إليه أو إلى وكيله عندما يلزمه ذلك.

في هذه الحال طبيعي أن تختلف قناعات الناس، وينتج منها تعدد المراجع الذين يرجع إليهم الشيعة، ولا بأس بذلك في مذهب الشيعة، بل إن التعدد نوعٌ من ضمان الحرية، ما دام ناتجًا من اختيار الناس. والمرجع الذي يرجع إليه أكثرية الشيعة في العالم يكون مرجع الشيعة البارز في عصره، والآخرون إلى جنبه. ومنذ القرن الثامن عشر كانت النجف هي الموقع التقليدي لمراجع التقليد الكبار لدى الشيعة (مع وجود مراكز علمية كثيرة في كربلاء وسامراء وكاظمية بغداد (في العراق)، وفي قم وأصفهان وتبريز وشيراز ومشهد (في إيران)، وجبل عامل وكرك نوح (في لبنان)). ولم تبرز قم مركزًا للحوزة العلمية إلا في أيام السيد حسين البروجردي (1875-1961) الذي اختار البقاء فيها، ولم يذهب إلى النجف على جاري عادة العلماء والفقهاء، حينما أتته الرياسة والمرجعية العامة للشيعة. ثم عادت المرجعية إلى النجف بعد وفاة البروجردي وانتقالها إلى السيد محسن الحكيم (1889-1970)، ومن بعده إلى السيد أبي القاسم الخوئي(1899- 1992)، إلى أن نازعتها قم القيادة وذلك منذ أن بَطَش الحكم البعثي بعلمائها في آخر سبعينيات القرن العشرين، وترافق ذلك مع عودة الإمام الخميني إليها وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية (1979).

 الميرزا حسين النائيني

لا يمكن فهم تجديد محمد مهدي شمس الدين للنظر الفقهي الشيعي في قضية الدولة والحكم والمواطنة، وتميّزه من زميليه النجفيين محمد باقر الصدر ومحمد حسين فضل الله، إن لم نعرف أهمية وقيمة تأثير الميرزا حسين النائيني في جيل منتصف الخمسينيات من القرن العشرين النجفي وفي أساتذة شمس الدين وتحديدًا المرجعين محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي[2].

شارك الفقيه الشيخ حسين النائيني[3] في الحركة الدستورية (المشروطة)[4] بشكل فاعل، ووقف إلى جانب كبار قادتها الذين لم يطوروا يومها أي تأصيل نظري أو مقاربة فقهية للمطالب الدستورية أو لمسألة شكل الحكم في زمن الغيبة، خصوصًا بعد تطور المجتمعات الإسلامية وانفتاحها على الغرب وتحولاته العميقة. ولذلك فإن رسالة العلامة النائيني تنبيه الأمة وتنزيه الملة[5]، تبدو في الأحوال التي كتبت فيها، وفي مضمونها ولغتها وجرأتها، مساهمة غير مسبوقة لدى فقهاء المذهب الإسلامي الشيعي الإمامي. ولهذا أيضًا اعتبر بعضهم العلامة النائيني "مؤسس الفقه السياسي الإسلامي الحديث"[6].

خلاصة الكتاب وفكرته:إثبات أن النصوص الشرعية تتضمن في ثناياها أسس النظام الدستوري من العدالة والحرية والمساواة بين الحاكم والمحكوم وفصل السلطات، ومجلس النواب. وهذا الأمر يخدم اتجاه الحركة الدستورية.

1/ يبدأ برفض الإسلام للاستبداد، بل سائر الأديان. وكذلك الفلاسفة والعقلاء.

2/ الفصل الثاني عن أنه مع عدم إمكان قيام حكومة مثالية في زمن الغيبة، فالمتعيّن أن تُقام دولة لا على أساس الاستبداد.

3/ تحدث فيه عن النظام الدستوري، وهو وإن كان غربي المنشأ إلا أنه بالفعل أفضل الأشكال المتاحة للحكم بعيدًا من استبداد الفرد.

4/ يتعرض فيه إلى رد الشبهات المثارة في شأن موضوع الحرية والمساواة، الأمر الذي يعتبر مغالطة مفضوحة مثل أن الحرية معناها عدم التقيد بأي نظام أخلاقي أو ديني، وأن المساواة تعني مساواة الذمي للمسلم في الأحكام.

 

استهل الشيخ النائيني أطروحته بتأكيد أصالة النظام السياسي وحاجة الأمم المطلقة إليه، بمعزل عن الدين أو الإيمان الديني، فقال ما نصه: "ثمة مسلمة توافق عليها جميع الأمم، وأقرها جميع عقلاء العالم، مفادها، أن استقامة النظام العام، وانتظام حياة البشر، مرهون [كذا] بوجود الدولة ذات السلطة القادرة على فرض النظام. وفي هذا المستوى فليس ثمة فرق في الإقرار بالحاجة إلى السلطة، بين القائلين بضرورة كونها فردية أو جماعية، أو مشروعية حكمها بالنظر إلى وصولها إلى مركز القدرة من طريق الانتخاب أو من طريق الوراثة أو الغلبة أو القهر. ومثل ذلك، فإنه مسلم ومعلوم بالضرورة، أن صيانة شرف البلاد واستقلالها وتماسكها كأمة، والمحافظة على مختصاتها الدينية أو القومية، منوط بالضرورة بقيام سلطة نابعة من ذاتها، معبرة عن ثقافتها وهويتها تحفظها وتدافع عنها، وإلا فإن جوانب تفوّق الأمة وتمايزها عن غيرها من الأمم، معرضة للزوال والضياع، مهما بلغت من الثروة والتمكن والتقدم والعمران"[7].

والجديد فقهيًا ونظريًا كما سوسيولوجيًا اعتبار السلطة عند النائيني نتاجَ المجتمع ونتاجَ خصوصياته... ومع أن قوله إن الإسلام لم يحدد شكلًا ثابتًا محددًا للسلطة، هو قول ردده غيره (الكواكبي وعلي عبد الرازق كمثال)، إلا أنه تميّز من جيله وعصره في اعتباره أن ما يحدد السلطة هو طبيعة الاجتماع الإنساني وتراثه وثقافته وأعرافه وتقاليده وخصوصياته. فهي سلطات تتغاير وتتنوع وتختلف من حيث الشكل والمضمون وفقًا للتكوين الديني والاجتماعي والتاريخي والثقافي والحضاري لكل أمة أو قومية أو جماعة. وهذا الرأي المهم للعلامة النائيني يقدم نظرة تقطع كليًا مع التكوين العقدي والسياسي للفقيه الشيعي. فالنائيني يصوغ في مطلع القرن العشرين وعيه السياسي من خلال منهجية فلسفية (محرّمة عند كثيرين من الفقهاء) وعصرية (تقارب البدعة عند أغلبية الفقهاء)، تعكس إلى حد كبير تماهيه الشديد مع واقعه. كما أنه يستخدم لغة جديدة من نوعها في المدونات الفقهية الإسلامية عمومًا والشيعية خصوصًا[8].

يرى النائيني أن الولاية الزمنية (السلطة) في عصر الغيبة، هي للأمة، وأن ولاية الأمة على نفسها شأن سياسي لا شأن شرعي، بالمعنى الزمني، إذ إن عدم إمكان تحقق الإمامة الإلهية، يفتح المجال للأمة في تحقيق سلطاتها عبر إقامة سلطة مقيدة بمجلس شورى منتخب[9].

من أجل هذا التغيير المنشود ولإعطاء السلطة المشروعية اللازمة، توجب على العلامة النائيني، حل إشكالية "غصبية سلطة غير الإمام المعصوم"[10]، و"غصبية الحاكم لحرية الناس"، لأن "الحاكم الظالم الذي لا يقيد بدستور أو مجلس شعبي (برلمان) يغتصب أمرين في آن واحد: حق الإمام وحرية الناس"[11].

إن حل إشكالية غصبية حق الإمام، يتحصل إذا صدر الإذن للحاكم ممن له الولاية الشرعية أي "إذن الفقيه"، إذ يمكن وبحسب رأي العلامة "أن يكون إذن صاحب الولاية سبيلًا إلى إخراجه من صفة الغصب، فلا يعود المتصدي غاصبًا أو ظالمًا لمقام الإمامة والولاية مثله في ذلك مثل المتنجس عرضًا يطهر بسكب الماء عليه"[12]. بل يذهب العلامة النائيني إلى أكثر من ذلك في إعادة تأكيد "أن عدم تمكن الفقهاء بصفتهم نوابًا للإمام جميعهم أو بعضهم من إقامة بعض الوظائف المجعولة لهم لا يوجب سقوطها أو انتفاء التكليف بها، بل ينتقل التكليف بإقامتها إلى عدول المؤمنين حتى تصل النوبة إلى فساق المسلمين إن لم يقم بها من قبلهم وهذا محل اتفاق جميع فقهاء الإمامية"[13].

أما حل إشكالية اغتصاب الحاكم حرية الناس، فيكون برأي النائيني بتقييد الحاكم، من خلال وضع "وإقرار دستور للبلاد"[14] وهيئة رقابة ومحاسبة والتي هي مجلس الشورى المنتخب من الشعب[15]. وهو لذلك، اعتبر أن السعي إلى استبدال السلطة، من سلطة مطلقة مستبدة إلى سلطة مقيدة مشروطة، هو فريضة دينية على الرغم من غيبة الإمام عن الأنظار، لأن وجود السلطة الدستورية هو الذي يوفر العدل المطلوب ويحرر البلاد من قلق انقلاب السلطان على الشعب والاتجاه إلى القهر والاستبداد[16].

كما أن تقييد السلطة بالدستور وبهيئة الرقابة والمحاسبة، لا يكفي عند العلامة النائيني إلا بإقرار أصلين أساسيين لا يمكن التهاون في شأنهما أو التنازل عنهما وهما: الحرية والمساواة اللتان يعتبرهما العلامة النائيني "من أعظم الِنعَم الإلهية على البشر... وهما رأسمال الشعب وباب سعادته، بل هما من لوازم الإنسانية ومن أساس الشرائع السماوية"[17]. "فاستنفاذ الأمم المقهورة ومساعدتها على نيل حريتها كانت من أهم أهداف الرسالات السماوية ومن أجلّ الأعمال التي قام بها الأنبياء"[18]. أما مبدأ المساواة فهو برأي النائيني "من أشرف القوانين المباركة التي تنطوي عليها السياسات الإسلامية وهو مبنى وأساس العدالة وروح القانون"[19].

إن تقييد السلطة الحاكمة بدستور وبهيئة رقابة ومحاسبة هي عبارة عن برلمان منتخب، مردّه وفق رأي النائيني إلى أن الشعب هو الذي "يدفع الضرائب والرسوم ويشارك في إعمار البلاد وبنائها هذا أولًا، كما إن أصل العمل بمبدأ الشورى يقتضي ذلك ثانيًا، ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثالثًا"[20].

إن دور الأمة أو الشعب هو دور أساس في أطروحة العلامة النائيني، فمشاركته في الرقابة والمحاسبة من خلال البرلمان أو مجلس الشورى، تمنع الحكم من الجنوح نحو الاستبداد، وحتى يكون دوره فاعلًا وكاملًا ينبغي أن يكون منتخبًا لا معيّنًا كما كان يحصل قبل حركة المشروطة، إذ كان السلطان يعمد إلى تعيين مستشاريه ووزرائه وولاته ثم يعزلهم متى يشاء.

أما مشروعية مجلس الشورى فهي بناءً على أصول أهل السنة تابعة لدليل ولاية أهل الحل والعقد، فهم يرون أن رأي أهل الحل والعقد من الأمة ملزم وواجب الاتباع، وبناءً على أصول المذهب الجعفري، يعتبر العلامة النائيني أن وجود بعض الفقهاء العدول في المجلس أو على أقل التقادير الفضلاء المأذون لهم من الفقيه العادل ثم موافقة الفقهاء على حجة الآراء الصادرة عن المجلس ونفاذها يعتبران كافيين لإسباغ المشروعية على عمل مجلس الشورى[21].

إضافة إلى ذلك، أيد العلامة النائيني، اعتماد أكثرية الآراء باعتبار ذلك لازمة من لوازم الشورى[22]، كما لم يجد ما يمنع غير المسلم، من ترشيح نفسه لعضوية مجلس الشورى انطلاقًا من مبدأ المساواة[23]، ودعا إلى فصل السلطات[24]، وهذه المواقف هي مواقف غير مسبوقة ولا معهودة عند فقهاء المذهب الشيعي الإثني عشري.

كان تضمين النائيني كتابه بعض الشواهد الفكرية والسياسية الإسلامية والأوروبية، سلاحًا بيد خصومه للتشكيك في إخلاص كاتبه للعقائد العامة التي تعتقد بها المؤسسة الدينية، فضلًا عن جرأة الأسلوب الذي انتهجه النائيني في طرح أفكاره. فهو، مثلًا، لم يتردد في الاستشهاد بسيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنموذجًا للعدالة السياسية. فضلًا عن أنه أشاد بنظرية "الحقوق الطبيعية" و"فلسفة الحق الطبيعي"، التي اعتمدها مفكرو عصر النهضة الأوروبية، بل وعدّها تتفق مع مبادئ الدين الإسلامي عندما قال: "إن الهيئة الدستورية (البرلمان)، هي الصيغة الراهنة التي توصل لها تطور الحضارة الإنسانية وفقًا للمبادئ الطبيعية، والقوانين الإسلامية اللتين لا تناقض بينهما"[25].
كما تضمن الكتاب آراء جريئة تتعلق بحرية الصحافة والرأي، وآراء أكثر جرأة تخص تعليم المرأة[26].

وفي ذلك كله يبدو "أن النائيني اتكل على منهج مختلف في الأخذ بكثير من الآراء في قضايا إشكالية، ذلك أن الجدل في موضوع السلطة والنظام، قائم أساسًا على تكييفه المفترض ضمن مشمولات مسألة الإمامة والنيابة وحدود ولاية الإمام ونائب الإمام، أما النائيني فقرر تكييفها في إطار آخر هو أولية النظام، وكون السلطة من الحقوق المشتركة لأفراد الأمة، متجاوزًا، وهو يركز على واقع ما بعد الغيبة، مسألة التعيين الإلهي للإمام، باعتبارها موضوعات لزمن سابق، فتبحث في إطار منهجها الخاص "مباحث الإمامة في علم الكلام"، وأن هذه القضايا، وهي جميعها، ولا سيّما ما يتعلق منها بعصر الغيبة، موضوعات إشكال، لم تنل حظها من الجدل العلمي مثل باقي موضوعات الفقه".[27]

هكذا، فإننا نرى بالتالي "أن النائيني يعتمد طريقًا جديدًا للاستدلال يبدأ بتقرير أن الواجبات الكفائية، ومنها الوظائف الحسبية، لا تسقط في أي حال، ويخص بالذكر بعض عناصرها المهمة مثل حفظ نظام الأمة وحفظ بيضة الإسلام، وبعد أن يلحظ كونها موكولة ـ كما يرى جميع الفقهاء، إلى الفقيه باعتباره نائبًا عن الإمام، يقرر أن عدم تمكن الفقيه منها أو عدم قيامه بها، لا يسقط وجوبها عن باقي المسلمين، إذ إن المخاطب بها أعم من الفقيه، فتتحول مسؤوليتها إلى عدول المؤمنين ثم عامتهم، وفي هذه الأثناء يربط النائيني بين عدالة السلطة وحفظ نظام الأمة، فيقرر أن هذا النظام لا يمكن حفظه في ظل السلطة الجائرة، فهي غير أمينة وغير مؤهلة، لهذا فإن القيام بالوظائف الحسبية على النحو المطلوب يستلزم وجود سلطة عادلة أمينة، لتقوم بها نيابة عن المجتمع، وهكذا يعيد إنتاج دليله في وجوب القيام بالوظائف الحسبية، على صورة وجوب إقامة السلطة العادلة، حيث لا يتحقق الأول إلا بوجود الثاني وفي ظله"[28].

بلغ الصراع أشده بين النائيني وأعدائه، متخذًا أشكالًا متعددة، فعندما تحدّاه خصومه أن يحصل كتابه هذا على تزكية المراجع الكبار، بادر إلى الحصول على ذلك، وأعلن اثنان من كبار المجتهدين موافقتهما الشرعية على مضمون الكتاب، هما عبد الله المازندراني وكاظم الخراساني[29].  واستخدم خصومه سلطة الغيب ضده، وأشاعوا بين الناس أن صاحب الزمان (الإمام الغائب) جاءهم في المنام وهو يستشيط غضبًا من محاولات بعضهم تدوين الدستور، لكن النائيني لم يجد نفسه مضطرًا إلى تفنيد الفكرة من أساسها، بل إنه استخدم السلطة ذاتها وردّ بالأسلوب نفسه، فنشر أنه رأى الإمام وهو راضٍ عنه وعن وجود الدستور[30]، فضلًا عن قيام بعض أنصار المستبدة بتأليف كتب مضادة لدعوة النائيني، فيورد أقا بزرك الطهراني[31] كتبًا تدافع عن نظام الشاه الاستبدادي وتذم الثوار، وكتبًا تؤيد النائيني والدستور.[32]

 



[1]أبو القاسم الخوئي، الاجتهاد والتقليد، ط 3 (قم: دار الهادي؛ دار أنصاريان للطباعة والنشر، 1990)، ص 119 و203.

 [2]يعترف شمس الدين بأن تراث النائيني كان حاضرًا في دراسته النجفية من خلال حكايات أساتذته عن مرحلة المشروطة وعن الصراعات التي تلتها، وعن قصة كتاب النائيني وترجمته في مجلة العرفان اللبنانية ثم سحبه من المكتبات في النجف واختفائه (أحاديث خاصة مع الإمام شمس الدين).وكان الإمام شمس الدين أعطاني نسخته القديمة من الكتاب وقد حملها معه من النجف، وقمتُ بنشرها في مجلةالغدير الصادرة عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان(وكنت رئيس تحريرها)، على حلقتين، انظر: مجلة الغدير (بيروت): السنة 2، العددان 10-11 (كانون الأول/ ديسمبر 1990)، والعددان 12-13 (آذار/ مارس 1991).

[3]ولد عام 1857 في بلدة نائين في إيران، درس في أصفهان ثم انتقل إلى مدرسة سامراء العراقية التي كانت حينها مركز التدريس الديني للشيعة بعدما حل فيها المرجع الكبير الميرزا محمد حسن الشيرازي (1815-1895) صاحب فتوى التنباكالشهيرة، ثم غادر واستقر في النجف الأشرف. تأثر بالمفكر جمال الدين الأفغاني، وشارك بفاعلية في الحركة الدستورية ثم في ثورة العشرين في العراق، فنفي حينها إلى إيران، ثم عاد إلى النجف ليدرس فيها بعيدًا من السياسة وليتتلمذ على يديه المرجع السيد محسن الحكيم والمرجع السيد أبو القاسم الخوئي.

[4]مصطلح "المشروطة" يطلق على التيار الدستوري الإيراني، ومثيله العثماني "المشروطية"، أما مصطلح "المستبدة"، فهو يطلق على دعاة الحكم المطلق وأنصار الشاه، فيما نظيره العثماني هو "الاستبدادية". وحركة "المشروطة" الإيرانية اندلعت عام 1905 بقيادة بعض المراجع الدينيين والمثقفين الليبراليين، بالتحالف مع تجار البازار للمطالبة بتأسيس مجلس شورى. وقد طلب علماء الدين في إيران من نظرائهم في النجف، مساندة الحركة الدستورية، فأصدر بعض العلماء فتوى موحدة تؤيد مساعيهم وتدعو المسلمين كلهم إلى التصدي لتأييد الدستور، فساعدت هذه في إجبار الشاه مظفر الدين في الخامس من آب/أغسطس 1906 على الاعتراف بالدستور وإعلانه، فشكل أول مجلس شورى في إيران (شوراي مِلّي). ولعل أخطر ما واجهه المصلحون الدينيون رفض فكرة الدستور من طرف السلطة الدينية ممثلة ببعض علماء الدين، والسلطة الاجتماعية ممثلة بعدد من رؤساء العشائر والبيوتات الذين عبأوا أتباعهم من العوام وبسطاء الناس من المقلدين، في كل من العراق وإيران ضدّ الدستور. وساعدت أحوال الدولة العثمانية السياسية المناهضة للتوجهات الديمقراطية والدستورية، السلطة الدينية في النجف من أنصار "المستبدة"، بزعامة السيد محمد كاظم اليزدي، على استلام زمام المبادرة للتأثير في الناس. انشقت المؤسسة الدينية على نفسها بين مؤيد للدستور ومعارض له، وحصل نزاع فقهي بين الفريقين. وقد مثل الميرزا محمد حسين النائيني الذراع الفكرية الديمقراطية لمعركة المشروطة.

 [5]تنبيه الأمة وتنزيه الملة، لمؤلفه الميرزا حسين النائيني (1853- 1936) هو "وثيقة" لإحدى المحاولات المبكرة للتأصيل الشرعي للعمل السياسي وللحكم المدني الديمقراطي البرلماني؛ إضافة إلى كونه يمثّل عنوانًا لمرحلة تاريخية مهمة مرّت بها المرجعية الدينية الشيعية إبان ثورة المشروطة في إيران (1905-1911). طبع الكتاب (بالفارسية) في بغداد وطهران مع تقريظ للأخوند الشيخ ملا كاظم الخراساني، والشيخ عبد الله المازندراني. ثم بعد ذلك بمدة، أي حين تقلد النائيني منصب المرجعية، جمع ما أمكن جمعه من نسخه. بل كان يشتريها بقيمة غالية، وأتلفت بأمره وبقيت منه نسخ قليلة، نجت من الإتلاف. ولا بد أنه صدر بين عامي 1908 و1909، وتوجد نسخة منه في مكتبة أمير المؤمنين في النجف، تحت تسلسل 2 ل (الرقم الخاص 75). كما طبع بالفارسية في طهران عام 1954، بتقديم من آية الله محمود الطالقاني. وقام الشاعر صالح الجعفري بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ونشره على أربع حلقات، انظر: محمد حسين النائيني، "الاستبدادية والديمقراطية،" العرفان، السنة 20، العدد 1 (حزيران/ يونيو 1930)؛ العدد 2 (تموز/يوليو 1930)؛ العدد 4 (تشرين الثاني/ نوفمبر 1930)، والعدد 5 (كانون الأول/ ديسمبر 1930)؛ أعادت مجلةالموسم (لاهاي) لصاحبها السيد محمد سعيد الطريحي طباعة هذه الترجمة: الموسم، السنة 2، العدد 5 (1990)، ص 70-142.والكتاب (بترجمة أفضل وأدق قام بها الشيخ فوزي السيف)مع مقدمته الإيرانية (بقلم السيد الطالقاني) أدخله توفيق السيف في كتابه: توفيق السيف، ضد الاستبداد: الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة: قراءة في رسالة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" لشيخ الإسلام الميرزا محمد حسين الغروي النائيني(بيروت: المركز الثقافي العربي، 1999).كما صدرت في قم ترجمة جديدة قام بها عبد الحسين آل نجف، بتحقيق وتعليق عبد الكريم آل نجف. وقد أعاد رشيد الخيون نشر الرسالةمعتمدًا على ترجمة الجعفري وآل نجف معًا، وذلك في كتابه: رشيد الخيون، النزاع على الدستور بين علماء الشيعة، المشروطة والمستبدة (دبي: دار مدارك للنشر، 2006).

[6]هذا ما كتبه عبد الكريم آل نجف في مقدمته لكتاب: محمد حسين النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملة، ترجمة عبد الحسين آل النجف،(قم: مؤسسة أحسن الحديث، 1998)، ص 53.

[7]النائيني، تنبيه الأمة، في: السيف، ضد الاستبداد، ص 245-246.

[8]عالج العديد من المفكرين الشيعة كتاب النائيني هذا. انظر خصوصًا كتابات وجيه كوثراني وعبد الجبار الرفاعي وتوفيق السيف، فهي الأهم والأعمق.

[9]السيف، ضد الاستبداد، ص 286-287، ويعالج السيف هذه النقاط في مقدمته للكتاب (انظر: ص 158-162). وهذه النقاط هي التي استعادها شمس الدين كما سنرى لاحقًا.

[10]  إيمان الشيعة بمبدأ حرمة أي سلطة تقام قبل تحقق الفرج على يدي الإمام المهدي المنتظر، ولأنها - بحسب نظرهم - لا تخرج عن كونها سلطة غصبية غير مؤهلة شرعيًا للتصرف في الأموال والأنفس.

 [11]السيف، ضد الاستبداد، ص 248.

 [12]السيف، ضد الاستبداد، ص 185-186 حيث يجد توفيق السيف أن النائيني قام بمحاولة تأصيل شرعي لسلطة مدنية.

[13]السيف، ضد الاستبداد، ص 319.

[14]المصدر نفسه، ص 257.

[15]المصدر نفسه، ص 318.

[16]المصدر نفسه، ص 73.

[17]المصدر نفسه، ص 275-276.

[18]المصدر نفسه، ص 269.

[19]المصدر نفسه، ص 307.

[20]المصدر نفسه، ص 317-318.

[21]السيف، ضد الاستبداد، ص 258-259.

[22]المصدر نفسه، ص 322.

[23]المصدر نفسه، ص 304.

[24]المصدر نفسه، ص 297.

[25]المصدر نفسه، ص 239-240.

[26]المصدر نفسه، ص 306. وقد شهدت مجالس النجف جدلًا واسعًا في هذا الموضوع، فينقل علي الخاقاني حوارًا دار في مجلس حافل، قال الوجيه يخاطب رجل الدين ويندد به: "إن من يمنع تأسيس مدرسة البنات غاشم ظالم، كفانا أنكم موهتم علينا أولًا بأن مدارس الأولاد بدعة وفجور، فتقدم أولادكم وصاروا محامين واستعبدوا أولادنا فراشين عندهم، أما بناتي فلا أقبل أن يكن خادمات عند بناتكم". علي الخاقاني، شعراء الغري، أو، النجفيات، 12 ج (النجف: [د. ن.]، 1946)، ج 10، ص 159.

[27]انظر توفيق السيف: ضد الاستبداد، الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة، مرجع سابق، خصوصًا الفصل التاسع الصفحات 153-168 بعنوان "نماذج من القضايا الإشكالية في الفقه السياسي...". ورد النص نفسه في مقال توفيق السيف في مجلة الواحة (السعودية)، العددان 10-11 ، السنة الثالثة- الربع الأول من عام 1418هـ، 1997م.

[28]المصدر نفسه.

[29]فاضل رسول، هكذا تكلم علي شريعتي: فكره ودوره في نهوض الحركة الإسلامية مع نصوص مختارة من كتاباته ، ط 3 (بيروت: دار الكلمة، 1987)، ص 28–29. وللتاريخ نذكر أن المرحوم فاضل رسول كان أول من استرعى انتباه المثقفين العرب إلى النائيني وإلى أهمية ثورة المشروطة والجدالات الفقهية الشيعية التي أثارتها وذلك في أطروحته: التي نشرتها مجلته الحوار التي أصدرها في فيينا: فاضل رسول، "الدين والدولة وصراعات الشرعية في الثورة الدستورية الإيرانية 1905-1911،" الحوار (1985)، وقد أعيد نشرها في: مجلة الفكر التقدمي، العدد 16 (تموز/يوليو 2012).

[30]رسول، هكذا تكلم علي شريعتي، ص 28. انظر قضية الرؤية في آخر مقطع من كتاب النائيني حيث يبدو أنه أضافها لاحقًا وهي بالنص: "ويحسن بنا ونحن في الخاتمة أن نكمل تلك الرؤيا التي ذكرنا طرفًا منها في ما سبق، وهي رؤيتنا للمرحوم آية الله الميرزا حسين الطهراني (قدس سره) والمتعلقة بهذه الرسالة.ففي أول شروعنا بكتابة هذه الرسالة، كنا قد كتبنا فصلين آخرين علاوة على فصولها الخمسة، وهما في إثبات نيابة الفقهاء العدول في عصر الغيبة في إقامة الوظائف الراجعة إلى سياسة الأمة والفروع المتعلقة بوجوه وكيفية ذلك، فكانت فصول الكتاب سبعة. وفي تلك الرؤيا بعدما تقدم لك منها سابقًا من تشبيه الدستورية بالجارية السوداء التي غسلت يديها من الأدران المتعلقة بها؛ فقد سألته في تلك الرؤيا عن لسان ولي العصر أرواحنا فداه: هل الرسالة التي أنا مشغول بها الآن ماثلة بحضور الإمام (عليه السلام)؟ فأجابني: نعم، غير موضعين منها. وبقرائن الحال عرفت أن المقصود بالموضعين هما الفصلان المذكوران لا غير، وذلك لعدم تعلقهما بالغرض الذي وضعت له هذه الرسالة وهو لفت أنظار العوام إلى ما ينتفعون به من الأمور، والفصلان المذكوران ليسا من هذا القبيل. لهذا أسقطت الفصلين واكتفيت بالفصول الخمسة".

[31]هو محسن بن علي، ولد في طهران عام 1876 وانتقل إلى العراق عام 1895، كان أحد تلاميذ الآخوند الخراساني، ومن أبرز دعاة المشروطة، أجيز بالاجتهاد قبل سن الأربعين، استقر في النجف حتى وفاته عام 1970، عُرف بإنتاجه الغزير، فكتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة صدر منه 19 جزءًا، ونقباء البشر في 11 جزءًا. انظر للاطلاع على سيرته ومؤلفاته: خير الدين الزركلي، الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، ط 5، 8 ج (بيروت: دار العلم للملايين، 1980)، ج 5، ص 287-289.

[32]محسن بن علي آغا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الطبعة الثالثة، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع،  بيروت 1983،ج 18، ص 61 و263.