يعتقد معظم اللبنانيين أن المقاومة هي نتاج بشري، ولها بنية تتحدد بنشأتها وعقيدتها، والقائمين عليها، وتمويلها وتسليحها، وبلورة أهدافها، ومتابعة تنفيذ عملياتها، وتأمين الدعم الشعبي والمعنوي لها من الأقربين والأبعدين، ومن ثم تقييم أدائها ومعالجة معضلاتها، باعتبارها أولا وأخيرا نتاج بشري يخضع للمعتقدات والأهواء والمطامح والمطامع، ونزوات البشر وترفعهم.

إلا أن السنين العشرة الأخيرة من عمر المقاومة الإسلامية في لبنان، وضعتها موضع النقاش والجدال والتأييد والرفض، والتبجيل والأنتقاص.

واللافت أن القيمين عليها ورعاتها ومموليها جنحوا نحو رفعها إلى مصاف المقدس، وأسبغوا عليها صفات القداسة، فأصبح كل نقد أو تجريح أو رفض يدخل في نطاق المدنس أو الحرام، ولعله من السهل أن يعطى لمكان ما، أو لكائن، أو لحزب او لقائد أو حتى للعبة صفات القداسة، ويجري ذلك بالتحوير والتحويل، وغالبا ما تلعب المعتقدات الدينية الدور الحاسم في تعيين ماهية القدسي الخالص او الشائب، الديني أو السحري، وبقدر ما ينجح أتباع المقدس في تعريته من سماته الدنيوية، يندمج بسهولة بالغة في السحر والشعوذة، فيحاط عندها بهالة سحرية خارقة، لا يمكن مسها أو الإقتراب منها دون تدنيسه، فالقدسي طاهر ودائم ومحدود النطاق، وهذه هي حال المقاومة الإسلامية في لبنان بامتياز، فهي دائمة(بنظر أصحابها)بمعنى أنه لا يمكن تهديد وجودها، او تعديل وظائفها،تحت أي ظرف كان،فهذا مجلبة للفساد والهرج والمرج وسفك الدماء، وهي محدودة النطاق بمعنى انها محصورة بحزب معين وطائفة معينة، لا ينتسب إليهما إلا أشرف الناس وأطهرهم.

أما الحرام أوالمدنس، فهو كل من يحاول ان ينزع عن المقاومة قدسيتها وديمومتها، لذا،فهو مضطرب ومشتت، تارة عميل، وتارة خائن، والعمالة قد تكون لإسرائيل أوأميركا، أو المعارضة السورية، أو"تنابل الخليج"، لذا، فإن الحرام متنوع وظرفي وعابر ومنبوذ، المقدس هو المصدر، وهو الفاعل وهو الشريف، والحرام هو الحصيلة البائسة، وهو الخسيس، من هنا اضطرابه وتشتته.

إلا أن المفارقة تبقى في تداخل المقدس مع المدنس، لا يفترقان، ولا يتوانى المقدس عن مجادلة المدنس ومخاتلته، يحاول استمالته بالترغيب والترهيب، اما المدنس، فيبقى المقدس في "حندوقة عينه" كما يقال، يقترب منه ليتعرف عليه مليا،يجادله عله يجذبه أإلى محيطه ليتساويا، طالما انه لا يستطيع الإرتقاء إلى مصافه، وهذا التداخل يجعلهما يتجسدان جوهريا في محرمات وممنوعات، فيغدو ما هو محرم وممنوع على المدنس، هو ذاته المحرم والممنوع على المقدس، واذا كان عقاب "المدنسين" جسديا ،فضلا عن العقاب السماوي، فإن عقاب "المقدسين" لا يقل ضراوة عن عقاب هؤلاء.

وتستمر المواجهة والموائمة، فتغدو المقاومة المقدسة، ومعارضوها المدنسون في "التباسية" واحدة، ذات معنى واحد واتجاه واحد، ويقعون معا في بؤرة بركات، أو بؤرة لعنات، وهذه البركات واللعنات هي قوة وهمية، من هنا هي التباسية،وتحكمها الغوايات، غواية أن تبدل المقاومة وجهتها وتعدل أهدافها، كالإستجابة لطلب الخروج من سوريا مثلا، أو الإستقلال الواجب عن أوامر الولي الفقيه في إيران، أو احترام سيادة الدولة اللبنانية، عندها يقترب منها المعارضون فيتتطهرون، بعد ان تكون قد تدنست بهذه الاستجابات العظيمة، لتبدأ تعقيدات جديدة في لعبة المقدس والمدنس، لعبة وقودها أرواح الابرياء، ودموع الأمهات الثكالى.