تصارعت مدرستان فكريتان في شأن دور العلماء الشيعة في زمن غيبة الإمام الثاني عشر (المهدي). اعتبر التيار الأخباريأن الاجتهاد لصوغ تشريع إسلامي معاصر يتم على أساس مصدرين اثنين فحسب، هما القرآن وأخبار الرسول والأئمة. وفي مقابل المدرسة الأخبارية اعتبر التيار الأصولي أن هذين المصدرين غير كافيين لصوغ تشريع إسلامي، وأن بإمكان العلماء، ممارسة الاجتهاد الشرعي من خلال استخدام مصدرين آخرين هما: العقل وإجماع العلماء[1]. ومع أنهم لم يزعموا عصمة العلماء على غرار عصمة الأئمة، إلا أن مجتهدي الأصوليين ركزوا على أن في إمكان العلماء أن يعملوا على أساس أنهم نواب شرعيون عن الإمام الغائب، طوال زمن الغيبة، ومن هنا صاغوا بالتالي نظرية "النيابة العامة" الممهدة لمنصب "مرجعية التقليد"[2].

 عمل العلماء الشيعة، بحسب الأوضاع التاريخية، على التجمع في أراض تحكمها قوى شيعية،أو يوجد فيها مجتمع شيعي متكامل، مثلما كان عليه الحال في مدن العتبات المقدسة في العراق تحت حكم الأسرة البويهية الشيعية (945-1055م)، أو بدءًا بالقرن الثالث عشر فصاعدًا، في منطقة جبل عامل (جنوب لبنان الحالي) الذي احتضن جماعة شيعية كبيرة نجحت في أن تبقى خارج سيطرة القوى السنية الحاكمة عبر فترات مختلفة من الزمن[3].

مع إقامة حكم الأسرة الصفوية في إيران (1501-1722م) وتحوّل التشيع تاليًا إلى دين الدولة الرسمي، أصبحت إيران هي المركز الأساس للعلم الشيعي مجتذبة بذلك العديد من كبار العلماء من العالم الشيعي.  ونيطت بهؤلاء مسؤولية تأمين الشرعية الدينية للنظام الجديد، إضافة إلى عملية تشييع البلاد ذات الأغلبية السنية يومذاك. ومع تحولهم إلى عنصر أساس في سلطة الدولة، ازداد عدد رجال الدين المحترفين وصاروا أول مرة سلطة كهنوتية تراتبية، كمؤسسة ذات وسائل قهرية غير مسبوقة لتمكين سطوتها على عامة الشعب[4].

أما خلال القرن الثامن عشر فحصلت حوادث تاريخية عدة في إيران أدت في ما أدت إليه إلى إعادة تموضع مئات من علماء الدين من إيران في جنوب العراق. ولعل الحدث الحاسم في ذلك تمثل بسقوط الدولة الصفوية في عام 1722 في أعقاب غزو القبائل الأفغانية السنية إيران. وكان لدى الأسرة الحاكمة التي خلفت الصفويين، وهي الأسرة الأفشارية (1736-1750) مقاربة مختلفة لموضوع علاقة الدين بالدولة. ففي مواجهة تهديدات القوى السنية سعى الحكام الجدد إلى وضع حد للخصوصية المذهبية الإيرانية بأن أعلنوا أن التشيع ليس أكثر من مذهب خامس بين مذاهب الإسلام السني، له وضعية المذاهب الأربعة الأخرى نفسها.  وعنى هذا، من بين أمور أخرى، أن التشريع الديني الشيعي لا يمتلك سلطة إلهية خصوصية مقارنة بالتشريع السني. وبناء على ذلك وضع الأفشاريون حدًا للامتيازات المختلفة التي كانت للعلماء الشيعة، واضعين بالتالي، في الآن نفسه، حدًا للتعايش التكافلي بين الدولة الإيرانية وطبقة رجال الدين. وما إن فقدوا هذه الحظوة الحكومية التي كانت تشكل مصدر قوة رئيس لهم، حتى غادر كثيرون من العلماء إيران، أغلبهم باتجاه الهند والعراق. وهكذا انتقل مركز العلم والدراسة الدينية الشيعية من إيران باتجاه مدن العراق المقدسة، كربلاء أولًا، ثم النجف[5].

إن الموقع الديني الخاص للنجف وكربلاء عند الشيعة، جعل منها أمكنة مثالية لإقامة نوع من سلطة أمر واقع لرجال الدين، مستقلة عن الدولتين العثمانية والإيرانية على السواء. والاستقلال عن الدولة كان امتيازًا من حيث حرية الفكر والعمل، إلا أنه كان يطرح مشكلات واقعية ملموسة جدًا من حيث التمويل. ففي غياب الدعم الحكومي كان على رجال الدين إيجاد مصادر أخرى للتمويل. فالمال (الخمس) كان يأتي من الخارج، خصوصًا من إيران، ولكن أيضًا من الهند. والاعتماد المالي على المصادر الإيرانية يمكن تفسيره بواقع أن الجسم الرئيس لرجال الدين، خصوصًا كبار العلماء منهم، كانوا من أصول إيرانية وأنهم حافظوا بالتالي على صلات قوية بإيران[6]. ومع نهاية القرن التاسع عشر استفاد علماء العراق من النزاع بين التجار الإيرانيين الأثرياء والنظام القاجاري (1781-1925). ففي مسعاه إلى إيجاد سبيل لحل أزمته الضريبية، اختار النظام الإيراني سياسة تشجيع الشركات التجارية الأجنبية على التجار المحليين الذين كانوا حتى ذلك الحين المساهمين الرئيسين في ميزانيته. وأدى هذا الوضع إلى الإضرار كثيرًا بمصالح "البازاري"، أي تجار المدن الإيرانيين الذين تحولوا صوب رجال الدين في العراق لكسب دعمهم في كفاحهم ضدّ سياسة حكومتهم. ونشأ تحالف قوي بينهم بعد حادثة التنباك في عام 1891 عندما نجح علماء العراق في إجبار الشاه على إلغاء احتكار التنباك الذي كان قد أعطاه لشركة بريطانية. وفي مقابل التمويل الكبير منح العلماء تجار البازار دعمًا سياسيًا وقت الحاجة. وفوق ذلك اكتسب علماء العراق وجاهة دينية على نظرائهم المقيمين في إيران، الذين تحطّمت صدقيتهم بسبب تبعيتهم للنظام[7].

في ظل حكم القاجاريين، أمكن تدريجًا إعادة صلة الدولة الإيرانية بطبقة رجال الدين الشيعة؛ ولكن إيران ظلت مع ذلك مركزًا ثانويًا للدراسة الدينية مقارنة بمدن العتبات العراقية. ففي إيران، بسبب علاقتهم المميزة بالدولة، اندرج رجال الدين ضمن هيكلية تراتبية رسمية على قاعدة المراكز المؤسسية التي منحها لهم الشاه. وعلى العكس من ذلك، فإنه في غياب سيطرة فعلية للدولة في العراق، كان مجتمع العلماء مجالًا مستقلًا ذاتيًا يتمحور حول علماء أفراد كانوا يتحركون باستقلال تام ويتنافسون على الموارد المالية، والنفوذ الديني، وأحيانًا أيضًا على السلطة السياسية[8].

وصف مئير ليتفاك هذا المجتمع بالتفصيل في مرحلة القرن التاسع عشر؛ وأظهر أنه في ما يتجاوز غياب أشكال التنظيم الرسمية، فإن طبقة رجال الدين طورت أنماطًا منتظمة من السلوك نتج منها تشكيل مؤسسة كاملة متكاملة أطلق الشيعة عليها تسمية "الحوزة العلمية"[9].



[1]يمثل الخلاف بين الطائفتين خلافًا في بنية المذهب الشيعي وفي أركانه ورجاله، حيث ترى الأخبارية أن الاعتقاد السليم يقوم على العمل بالأخبار المنقولة عن المعصومين - بحسب زعمهم - أو المنسوبة إليهم من دون النظر إلى شيء آخر. فهم إذًا لا يعتمدون إلا على متون الأخبار التي تروى عن أئمتهم، ويتمسكون بظاهر الحديث، ولا يرون الأدلة الشرعية إلا الكتاب والحديث، وهم بذلك يمنعون الاجتهاد وإعمال العقل. ويرى الأخباريون أن ما في كتبالأخبار الأربعة عند الشيعة كلها صحيحة قطعية الصدور عن الأئمة، ويقولون ما دام أصحاب الأئمة نقلوا هذه الروايات من الأئمة، فإنها لا تحتاج إلى النظر والبحثوالتحقيق والتفتيش، لا عن السند لأنها من صاحب الإمام، ولا عن المتن لأنه من الإمام والكتب الأربعة هي:
أ- الكافي: لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني (ت 328هـ)، وهو أهم مراجعهم، وفيه 16199 حديثًا.
ب- من لا يحضره الفقيه: لابن بابويه القمي المشهور باسم "الصدوق" (ت 381هـ).
ج- تهذيب الأحكام: لأبي جعفر الطوسي المعروف بـ "شيخ الطائفة" (ت 460هـ).
د- الاستبصار: للطوسي أيضًا.

يقول شيخهم الفيض الكاشاني (ت 1090هـ) "إن مدار الأحكام الشرعية اليوم على هذه الأصول الأربعة، وهي المشهود عليها بالصحة من مؤلفيها".
وبالحصيلة فإن الأخباريين يرون الحجة في الكتاب والخبر - بحسب مفهومهم، ولا يرون حجة للإجماع أو الاجتهاد أو دليل العقل.

[2]Ahmad Kazemi Moussavi, «The Establishment of the Position of Marja'iyyat-l Taqlid in the Twelver-Shi'i Community,» Iranian Studies, vol. 18, no.1 (Winter 1985), pp. 35-38; Heinz Halm, The Shiites: A Short History, Translated from the German by Allison Brown, 2nd ed., updated and enl., Princeton Series on the Middle East (Princeton: Markus Wiener Publishers, 2007), pp. 95-102.

[3]Laurence Louër, Transnational Shia Politics: Religious and Political Networks in the Gulf., CERI Series in Comparative Politics and International Studies (London: Hurst & Company; Paris: in Association with the Centre d’Etudes et de Recherches Internationales, 2008), p. 70.

[4]Said Amir Arjomand, The Shadow of God and the Hidden Imam: Religion, Po­litical Order, and Societal Change in Shi'ite Iran from the Beginning to 1890, Publications of the Center for Middle Eastern Studies; no. 17 (Chicago, ILL: University of Chicago Press, 1984), pp. 122-159, and Moojan Momen,An Introduction to Shìi Islam: The History and Doctrines of Twelver Shìism (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1985), pp. 75-104,andLouër, p. 71.

[5]Momen, pp. 127-128, andLouër, p. 72.

[6]Momen, pp. 184-201, and Louër, p. 72.

[7]Momen, p. 210, and Louër, p. 72.

[8]Louër, p. 73.

[9]Meir Litvak, Shi'i Scholars of Nineteenth-Century Iraq: The ‘Ulama’ of Najaf and Karbala', Cambridge Middle East Studies; 10 (Cambridge: Cambridge University Press, 1998), p. 22.