إلى اللحظة السياسية التي تعيشها المنطقة حاليا لا تزال كلمة" تقسيم"  تثير الرعب في نفوس شعوب المنطقة الذين مروا بهذه التجربة بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية أوائل القرن العشرين. لا زالت شعوب المنطقة تطمح  بالدولة العربية الموحدة لذلك بين فترة وأخرى نقرأ تقارير إقتصادية وسياسية وإجتماعية عن الأهمية الإستراتيجية لقيام الوحدة العربية في منطقتنا.

لكن بعيدا عن الأحلام التي تدغدغ عقول البعض فإن هذه الوحدة والتي تحققت سابقا إبان الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية ضمن إطار شريعة الإسلام لم تبشر حينها بالخير وهي تجربة غير طموحة بعكس ما يروج لها البعض خصوصا محبي النستولوجيا الإسلامية. فلم تسجل هذه الوحدة الإسلامية في تاريخها إستقرارا تاما على كافة مناطقها على الرغم من الفتوحات والغزوات الإسلامية التي وصلت إلى جنوب فرنسا.

لذلك كانت تعاني من إضطرابات وإنشقاقات وثورات مستمرة ساهمت في إضعاف الخلافة الإسلامية على مر القرون. فلطالما كان شمال أفريقيا منتفضا على الخلافة المركزية في بغداد ولطالما كان يرفع إسم خليفة بغداد في خطب الجمعة رمزيا فقط على حساب قيامة دول شبه مستقلة في مصر وشمال أفريقيا وحلب وغيرها.

لذلك فإن التقسيم بحلته القديمة كان حلا للعديد من القوميات التي عاشت تحت ظل الخلافة الإسلامية لأنها شعرت بالقمع والضعف التمثيلي لها وإنسداد الأفق لطموحاتها السياسية فكانت ترى بالإنتفاض على الخلافة وإقامة دول أي" التقسيم" وسيلة لتعبر عن نفسها وتؤمن حقوقها. فتجربة فخر الدين الثاني في لبنان والذي إستقل بدولته عن العثمانيين ووصلت دولته إلى قلب سوريا وفلسطين مثال عن رغبة لدى شعوب المنطقة بإقامة دول مستقلة مبتعدة عن فكرة الدولة الكبيرة المتسعة الحدود ولهذه الرغبة أسبابها أهمها التنوع القومي والعرقي والمذهبي التي تعيشه المنطقة فمن الصعب إيجاد صيغة حكم تجمع جميع هذه القوميات والعرقيات إلا صيغة الدولة المدنية ولكن وعي الشعوب العربية لم يصل بعد إلى القناعة المطلوبة والمعرفة التامة والثقافة المكتملة عن الدولة المدنية وأهميتها وطرق ممارستها.

هذا التنوع عامل إيجابي وحضاري وثقافي مهم يغني المنطقة العربية لكن سيطرة الأفكار الدينية المتطرفة على المشهد تلغي هذا التنوع وتحول أتباعه إلى مواطنين من فئة ثانية وأهل ذمة. فالإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي كان ولا يزال يطمح بإقامة الإمبراطورية الإسلامية بمعنى آخر يحاول تكرار الماضي مرة أخرى متجاهلا التغيرات السياسية والإقتصادية والعلمية في العالم ومتجاهلا أيضا الدور المسيحي في هكذا إمبراطورية مزعومة. ولكي لا نحمل الإسلام السياسي وحده فشل واقعنا العربي علينا أن ننظر إلى ما قدمته الدعوات القومية كالناصرية والبعثية وغيرها لشعوب المنطقة.

فهل إستطاعت هذه الدعوات تجنب العوامل الدينية للشعوب العربية أو سقطت فيها؟ وما هو المشروع التنموي الشامل والرؤية البعيدة للوحدة العربية؟ حتى أن التجربة الوحيدة للوحدة العربية التي قامت بين مصر وسوريا جاءت على حساب تهميش التعددية السياسية التي كانت تعيشها سوريا وقمع الحريات فيها وكم الأفواه وحتى التمييز بالحصص الحكومية والوظائف بين العنصر المصري والعنصر السوري.

فعلى الرغم من القرب الجغرافي بين مصر وسوريا لم يستطيعا تجاوز الهويات الوطنية وتذويبها في البوتقة العربية ففشلت الوحدة. 

فشلت الوحدة العربية لأن دعاتها لم يفهموا إلى اليوم أن هذه الوحدة هي مجرد وحدة سريالية لا أسس علمية ولا نتائج مثمرة لها وفشلت لأنها تعيش على أمجاد ماض لم يدرس ولم يحلل بأسلوب موضوعي حيادي لكي تؤخذ منه الدروس لبناء مستقبل مزهر وفشلت وستفشل لأن العرب مقتنعون بأنهم سينجحون إذا أقاموا دولة عربية مركزية في زمن العالم يتحول فيه نحو اللامركزية والفيدرالية والتخصص أكثر فأكثر.

فالعرب يعودون إلى الماضي بعمق أما الغرب فينظرون إلى المستقبل وآفاقه. واليوم وفي ظل الصراع المحتدم بين شعوب المنطقة يطل شبح التقسيم من جديد كخيار لإنهاء أزمات سوريا والعراق واليمن.

فالظروف أصبحت ناضجة لهذا التقسيم وهو بحاجة إلى اللمسات الأخيرة. ولكن على الرغم من أن التقسيم أصبح واقعا في يوميات السوري والعراقي إلا أن محور ما يسمى الممانعة يصر على فكرة مركزية دول سوريا والعراق ولكن تحت الطاولة يرضى بأي شيء يؤمن له التحكم بضروريات العبور الجغرافي بين إيران ولبنان لذلك ففكرة التمسك بالمركزية هي مجرد شعار يدغدغ مشاعر العرب المقتنعين بفكرة الوحدة مقابل خلافة إسلامية مستجدة وعاصمتها الرقة ومشروعها العابر للدول يوازيها على الطرف الآخر دعوات إنفصالية للحكم الذاتي يتصدرها أكراد سوريا والعراق.

فالمشهد الممل منذ غزو العراق 2003 إلى الآن كسره تصريحان الأول أميركي من سنوات دعا إلى تقسيم العراق إلى 3 أقاليم وآخر روسي من يومين قال أنه من الجيد إذا توصل السوريون  إلى الإتفاق على الجمهورية الفيدرالية. فالتصريح الأميركي القديم والذي صدر من نائب الرئيس الأميركي بايدن لم يمر مرور الكرام حينها ونال تغطية إعلامية وإستغلال واسع من قبل نخب المنطقة وساستها خصوصا من يكنون العداء لأميركا ويروجون لنظرية المؤامرة بعكس التصريح الروسي الملفت من قبل نائب وزير الخارجية الروسي  سيرغي ريابكوف الذي مر مرور الكرام وإبتلعت نفس النخب ونفس الساسة ألسنتهم وإمتنعوا عن التعليق.

 وعلى الضفة اللبنانية ظهرت بعض القيادات المطالبة بالفيدرالية كحل نهائي للقضية اللبنانية. وهذه المطالبات كانت نشطة إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 ولكن إتفاق الطائف 1989 حسم موضوع نهائية الكيان اللبناني بحدود ال 10452 كلم2. ولكن اليوم هذه الدعوات غير جدية في لبنان لعدة إعتبارات منها أن لبنان جغرافيا صغير وغير قابل للتقسيم وأي تجربة تقسيمية له هي تجربة فاشلة إقتصاديا وبشريا وسياسيا وأمنيا لكن خيار إتساع حدود لبنان قد تكون على طاولة المفاوضات.

بعكس سوريا والعراق اللذان يتمتعان بمساحات جغرافية كبيرة وموارد بشرية وإقتصادية مهمة تؤهلهما لتحمل آثار التقسيم عليهما. فالواقع الثقافي والديني  في العراق مثلا وصل إلى مرحلة الطلاق بين إقليمي الأنبار  ذات الثقل السني والجنوب العراقي ذات الثقل الشيعي يقابلهما شبه دولة مستقلة في شمال العراق للأكراد الذين لا يعطون أي أهمية لقرارات الحكومة المركزية في بغداد. فالأكراد يتصرفون في شمال العراق على أنهم دولة قائمة ليست بحاجة إلا إلى إعتراف من الأمم المتحدة أما باقي مقومات الدولة فهي قائمة في كردستان العراق. أما في سوريا فالأزمة على خط ساخن يدخل عليه أكثر من طرف.

فسنة سوريا العصب الأساسي للإنتفاضة السورية لن يقبلوا بأي صيغة تجمعهم ثانيا مع آل الأسد وحتى أن التواصل الجغرافي بين المناطق قد تقطع وأصبح الساحل السوري منطقة منفصلة عن باقي سوريا وتحول الشعب السوري إلى الشعب السني والعلوي والدرزي والمسيحي والكردي. فأي صيغة مركزية تلك القادرة على جمع علويي اللاذقية مع سنة حمص مثلا.

لا شيء أكيد سوى صيغة الدولة المدنية الصعب قيامتها في وقتنا الحاضر. فالبعد الثقافي والجرح الدامي منذ 5 سنين قضى على أي فرصة لإقامة دولة مركزية من جديد أو إعادة الوضع إلى ما كان عليه. فهل سيصمت سنة حلب عن دمائهم المهدورة أو سيصمت علويي الساحل السوري عن دمائهم أيضا فأي صيغة مركزية هي بمثابة تهديد مستمر وخطر دائم لنسيج المجتمع السوري لأنها تجمع أعداء لا يربط بينهم سوى الحقد والثأر والدم.

من هنا جاء التصريح الروسي بالتمني بإقامة الجمهورية الفيدرالية كحل واقعي للأزمة السورية بعيدا عن الحلول الوهمية والشعارات الفارغة. فالفيدرالية هي حل وسط بين دول مستقلة بالتمام والكمال ودولة مركزية واحدة تحقق الحل الأفضل للواقع السوري اليوم وحتى العراقي فهي وجه من أوجه التقسيم الملطف.

وقد يكون الطرح من باب جس النبض نحو أفكار تقسيمية أكثر جرأة تصل حد إقامة دول مستقلة تصل إلى حدود 5 دول في سوريا و 3 في العراق. فكل شيء مطروح اليوم في منطقة تمزقها الحروب والشعارات الفارغة. قد يجد العرب بعد كل هذه السنين بأن المؤامرة لم تكن في تقسيمهم بل في وحدتهم الزائفة.

التقسيم قد يكون دواء هذه المنطقة ليعبر كل عرق ومذهب عن خياراته بعيدا عن قمع المكون الأكبر والأقوى له. فقد تشعر المكونات بالحرية المفقودة جراء قمع الأكثريات للأقليات في منطقة لا تعترف إلا بهيبة العسكر يحكمها ويديرها وتقمع أحرارها ومثقفيها. في منطقة ساستها يبيعون شعوبها بالإعلام أكاذيب عن وحدة لم تنجح وتحت الطاولة يقبلون بالتقسيم كخيار واقعي لهم ويتبجحون بأن التقسيم خيار إسرائيلي متناسين عجزهم وفشلهم كدول مركزية مجتمعة على تحرير فلسطين. فكما كانت ثمرة إتفاقية سايكس- بيكو إسرائيل،  من المحتمل أن تكون ثمرة إتفاقية كيري- لافروف كردستان.

فلا بأس بالتقسيم إذا كان حلا جذريا لمشاكل العرب في عالم القوميات والإثنيات والهويات الدينية المختلفة ولا بأس بهذه الدول المقسمة بأن تنطوي تحت مظلة إتحاد عربي كالإتحاد الأوروبي محافظة على إستقلالها وخياراتها. فعلى العرب لمرة واحدة فقط أن يفكروا بعيدا عن نظرية المؤامرة،  فمن يطرح التقسيم اليوم هم الروس وليس الأميركيين فقط.