لا يفوّت حزب الله مناسبة إلاّ ويتباهى فيها بقدراته العسكرية وترسانته الصاروخية وإمكانياته المادية والتنظيمية، حتى بات يعتبر نفسه قوّة عظمى تضاهي بعض دول المنطقة قوةً وتأثيراً، ويتصرّف على أنه أكبر من لبنان ومن دولته ومن كل مؤسساته، ويريد من الآخرين التعاطي معه على هذا الأساس، وعند مطالبته بتسليم سلاحه للجيش اللبناني والإنخراط في صفوفه والعودة إلى كنف الدولة والإنسحاب من الحروب التي يزجّ نفسه فيها ويورّط لبنان بنتائجها وتداعياتها، يأتي الجواب على لسان قادة الحزب بأن لا تتعبوا أنفسكم بهذه القضايا، فهي أكبر منكم ومن لبنان.

حسناً، لكن ألا يحق للشعب اللبناني الذي يدفع أثمان ما يقوم به حزب الله من حروب ومغامرات في الداخل والخارج أن يسأل: ما نفع كل هذه الإمكانيات والقدرات والترسانات إذا لم توظّف في خدمة لبنان وقيام دولته القوية والقادرة على حماية سيادته وإستقلاله وحدوده ومواطنيه??? ما نفع كل هذه الترسانة العسكرية التي يملكها حزب الله، والجيش اللبناني  شبه أعزل ولا يملك القدرات ولا الإمكانيات لمواجهة العدو الصهيوني ولا القدرة على مواجهة الإرهاب كما يجب وهو ينتظر الهبات من هنا وهناك لتغطية بعض الإحتياجات???  ما نفع تحرير الأرض من الإحتلال إذا كان شباب تلك الأرض المحررة الذين قدموا الغالي والنفيس لتحريرها يُدفعون دفعاً للموت في سوريا واليمن والعراق دفاعاً عن أنظمة ظالمة بحق شعوبها، بدل أن يتنعموا بالتحرير الذي أثمرته تضحياتهم??? ما نفع تحويل مقاومة الإحتلال الإسرائيلي في لبنان التي كانت صاحبة أرض وحق إلى قوّة غازية في سوريا تهجّر شعبها وتناصر نظام ظالم ومجرم دمّر سوريا وباعها لدول أجنبية مقابل الحفاظ على كرسي الحكم??? ما نفع هذه القوّة العظيمة التي تحمّل لبنان أوزار حروبها وأثمان مغامراتها وإرتباطاتها وهي عاجزة عن تأمين الماء والكهرباء لشعبها??? ما نفع كل هذا القوّة وأصاحبها لا يستطيعون إيجاد حلّ للنفايات المكدسة في الشوارع منذ سبعة أشهر???.... إلخ  لا ينفع ولا يُقنع الجواب عن كل هذه الأسئلة بالقول أنّ حزب الله ليس بديلاً عن الدولة، نعم حزب الله ليس دولة، لكنه يعيق بقوته الزائدة عمل الدولة ويعرقل سير عمل مؤسساتها ويمنع مع حليفه العوني إنتخاب رئيس للجمهورية منذ ما يقارب السنتين مع ما يتسببه هذا الفراغ من شلل وترهل في كل مؤسسات الدولة.

ليس صدفةً أن يكون لبنان غارقاً بكل هذ الأزمات والمشاكل المزمنة والمستجدة على كل الأصعدة وتكون النفايات مكدسة  منذ سبعة أشهر في الشوارع وتمتلئ بها مجاري الأنهر ، والهريان يضرب المؤسسات والشغور يعشعش في قصر الرئاسة الأولى منذ ٢٢ شهراً والشعب يعاني من أزمات الكهرباء والماء والهواء والكلاء والدواء والبطالة والزبالة والمهانة، وفي الوقت نفسه يعلن أمين عام حزب الله بأن حزبه هو في أفضل أحواله وفي أوج قوته في الداخل والخارج وهو مرتاح على وضعه أكثر من أي وقتٍ مضى، وجمهور حزب الله الذي أدمن الإنتصارات الإلهية، أصبح يحمل فوق أكتافه رؤوس حامية تستسهل التهديد والوعيد، والضرب بيد من حديد كل من يخالفه الرأي ومستعد للذهاب إلى فتنة مذهبية وحرب أهلية لأتفه الأسباب، وما جرى على أثر عرض سكتش تهكمي على قناة mbc  خير دليل على ذلك، ومع كل هذه التخمة من الإنتصارات، تزداد الأزمات والمشكلات في لبنان، وما زال "الشعب المنتصر" يعاني من غياب كل مقدرات العيش الكريم وما زالت العتمة مخيمة والنفايات مكوّمة والآمال ببناء الدولة القوية مخيّبة، والعدو المهزوم الغاشم، ينعم برغد العيش على مرمى حجر من حدودنا الجنوبية، حتى بتنا على قناعة مثبتة بالوقائع بأن قوّة لبنان وقوة حزب الله هما قوتان متناقضتان، تتقدم إحداهما على حساب الأخرى، فكلما إزداد لبنان ضعفاً وترهلاً، يزداد حزب الله قوةً ونفوذاً وإنتشاراً، والعكس صحيح، وهذه إشكالية لا يمكن لحزب الله القفز فوقها أو إنكارها، مهما تبرأ منها ورمى كرتها في ملعب الآخرين. 

سبق للبنان أن إستفاد من قوّة حزب الله عندما كان يمارس العمل المقاوم لتحرير الأراضي اللبنانية التي كان يحتلها العدو الإسرائيلي، فأثمرت هذه القوة إنجاز التحرير في ٢٥ أيار من العام ٢٠٠٠ الذي شكّل محطة هامة بتاريخ المقاومة وتاريخ لبنان ونقطة مضيئة للعمل المقاوم،  وبالرغم من التركيبة المذهبية لحزب الله وبالرغم من الخلاف السياسي الكبير والحاد بين حزب الله والكثير من الأحزاب اللبنانية، إلاّ أن الجميع إعترفوا لحزب الله بتضحياته ومساهمته الكبيرة والأساسية في عملية التحرير، يومها، أصبح لدى الحزب رصيد شعبي كبير  وتأييد جماهيري غير مسبوق في الداخل اللبناني وعلى إمتداد العالمين العربي والإسلامي، وتجلى هذا التأييد في الموكب الضخم الذي سيّره حزب الله بعد التحرير مباشرةً والذي ضمّ الغنائم العسكرية التي غنمها حزب الله من العدو الإسرائيلي وجيش العميل لحد، يومها جال الموكب في كل لبنان من أقصاه إلى أقصاه وإستقبل إستقبال الفاتحين في كل المدن والقرى اللبنانية ولم يستثني أي مدينة أو قرية لأي إعتبار سياسي أو طائفي إو مذهبي، وترافقت الإستقبالات مع إحتفالات عفوية عارمة. يومها كانت قوة لبنان من قوة حزب الله، وكان الشعب اللبناني يأمل أن يشكل إنجاز التحرير البوابة التي يخرج منها النظام السوري الذي لطالما ربط وجوده في لبنان بوجود الإحتلال الإسرائيلي، وباب يدخل منه إلى الدولة التي لطالما حلم بها، لكن حسابات حزب الله وإيران من خلفه كانت مختلفة عن حسابات الشعب اللبناني، وكانت الصدمة الكبرى حين أصرّ حزب الله على البقاء في نفس الموقع ونفس المكان والإستمرار في نفس الوضعية والتصرف وكأن التحرير هو محطة صغيرة على طريق طويل نعرف أين يبدأ، ولا نعرف أين ينتهي.

وبدأت رحلة الإنحدار من ٢٥ أيار ٢٠٠٠ يوم التحرير المجيد إلى ٧ أيار ٢٠٠٨ اليوم المشؤوم، يوم  الإستقواء على الشريك بالسلاح وإستخدام القوة ضد فريق لبناني بهدف تغيير المعادلة السياسية وإلغاء نتائج الإنتخابات النيابية. في ٢٦ نيسان من العام ٢٠٠٥ خرج جيش السوري من لبنان بفضل إنتفاضة الإستقلال التي صنعها الشعب اللبناني، يومها وقف حزب الله ضد إرادة إكثرية الشعب اللبناني الساحقة، ومن ثم جاءت حرب تموز وما رافقها وتلاها من أحداث وتخوين وإتهامات وصولاً لليوم المشؤوم في ٧ أيار، يومها سقط حزب الله سقطة كبيرة في الداخل، لكن الطامة الكبرى والسقطة الأكبر كانت يوم ذهب حزب الله لمساندة  النظام السوري والقتال إلى جانبه ضد إرادة الشعب السوري الذي خرج بأكثريته الساحقة كبقية الشعوب العربية من أجل رفع الظلم وإسقاط نظام جائر حكم سوريا بالحديد النار لنصف قرن.

يومها سقط حزب الله سقوطاً مدوياً داخلياً وخارجياً ولم يزل يسقط. اليوم يستقوي حزب الله على شريكه اللبناني بالسلاح، ويحاول كمّ أفواه خصومه ومنعهم من ممارسة حرية التعبير وآخر هذه الممارسات ما حصل مؤخراً مع موقع "جنوبية" ، والكل يعلم بمن فيهم حزب الله أن  القيمة الأساسية التي يتمتع بها لبنان هي الحرية، والتي لولاها لما وصل حزب الله ومقاومته إلى ما وصل إليه، وغياب الحرية في سوريا، منع شعبها من إطلاق مقاومته وتحرير أرضه، ودفع الشعب السوري للثورة على النظام المستبد ودفع الأثمان الباهضة ولم يزل من أجل الوصول إليها، وحزب الله اليوم يحاول نزع هذه القيمة من يد اللبنانيين ويجهد لمنع الشعب السوري من الحصول على حريته، لهذا السبب ذهب بعيداً في مناصرة النظام السوري بهدف الإجهاز على الثورة السورية، ما ترك جروحاً وندوباً في العلاقة بين الشعبين الجارين يصعب دملها وبلسمتها في المدى المنظور.

كل هذه الممارسات التي يقوم بها حزب الله في الداخل والخارج تُؤدي إلى تمكينه وتقويته كحزب وطائفة على حساب  لبنان كدولة ووطن، حتى بات ضعف لبنان من قوّة حزب الله.