في خضم الجنون السياسي الذي تعيشه الساحة اللبنانية من تصريحات وبيانات والحيوية التي أضيفت على جمود الصورة السياسية جراء عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان والحراك الذي قام به،  برزت قضية العلاقات العربية اللبنانية والإعتذار للمملكة العربية السعودية جراء موقف لبنان الرسمي متمثلا بوزير الخارجية جبران باسيل بعدم التضامن مع السعودية في جامعة الدول العربية ضد تدخلات إيران في المنطقة العربية وحادثة التهجم على  القنصلية السعودية في إيران.
  هذه القضية تفاعلت كثيرا جراء الدفع القوي الذي مارسته قوى 14 آذار  وخصوصا سعد الحريري بإتجاه تصحيح الموقف مستغلة حملة منسقة من قبل دول الخليج العربي بالضغط على لبنان فتم سحب الهبة السعودية المخصصة للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي وبدأت تتسرب تقارير غير رسمية عن نية لدى دول الخليج بترحيل الآلاف من اللبنانيين إلى لبنان رافقها أخبار عن نية السعودية سحب ودائعها المالية من المصرف المركزي وطلب بعض دول الخليج من رعاياهم مغادرة لبنان وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي.
  أمام هول هكذا مشهد وفي لحظة حساسة من تاريخ لبنان أطلق سعد الحريري من بيت الوسط وثيقة التضامن العربية و دعا فيها اللبنانيين إلى التوقيع عليها تتضمن شكر للسعودية التي شعرت بوجود قاعدة شعبية ونخبوية وسياسية ما زالت مؤمنة بخياراتها وسياساتها فشهدت سفارتها توافد المئات إليها متضامنين.
  ولكن لو أخذنا الأمور من زاوية إقليمية نراها مختلفة،  فليست القضية قضية تقديم إعتذار رسمي وتنتهي الأمور وبالمناسبة هذا الإعتذار مرفوض أخلاقيا في لبنان قبل الخوض بأي سجال سياسي ولا يمتلك حتى حيثية وازنة في أوساط جماهير 14 آذار فالإعتذار بالشكل والمضمون "فج"  ولا يليق بالدولة اللبنانية  وهو مظهر للذل والإذلال وبالتالي هو مرفوض شعبيا من كافة الشعب اللبناني وليس ضمن الخيارات.

وعلى الضفة الأخرى،  فالسعودية لا تهدف إلى تحصيل إعتذار رسمي من الدولة اللبنانية وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبلها بل حقيقة ما تريده هو إسترجاع دورها السياسي الفاعل في لبنان الذي تراه يذوب شيئا فشيئا بالسياسة الإيرانية والذي توج بالموقف الرسمي في الجامعة العربية. إنزعجت السعودية من الموقف الذي جعلها تشعر بأنها بدأت تفقد دورها في لبنان. فما تقوم وستقوم به السعودية لاحقا هو إسترداد هذا الدور وإعادة تحقيق نوع من التوازن مع الدور الإيراني في لبنان. هي لعبة أدوار وتثبيت قواعد في رمال متحركة بدأت بوادر هدوئها من سوريا وقد تنتج إتفاق على موقع رئاسة الجمهورية في بلادنا.
  وسط هذه الأجواء،  تساءل كثيرون ومعظمهم مستقلون عن أهمية السعودية في الواقع اللبناني. فالسؤال بريء وهو علمي بحت. فهل السعودية قدر  لبنان الذي لا مفر منه؟  وهل يوجد بديل عن السعودية؟ ففي عالمنا اليوم دائما ما تتوفر البدائل ولا تنحصر الخيارات عادة خصوصا في السوق المفتوحة على كافة الدول والسياسات.
  حسنا، الإجابة تتطلب واقعية،  فالسعودية والخليج العربي وبعد حرب تموز 2006 تولوا إعادة  إعمار العديد من القرى اللبنانية التي دمرتها الآلة العسكرية الصهيونية إضافة إلى الهبات والمساعدات المالية والوديعة التي أودعتها في المصرف المركزي بعد الحرب وهبة  المليارات للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي ولا يمكن نسيان دور هذه الدول في إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية في لبنان حيث تقدر إستثمارات السعودية لوحدها بحوالي 70 مليار دولار.
  إلى هذا الحد من الأجوبة يمكن الإستنتاج بأن السعودية ليست قدرا  فما قدمته يمكن تقديمه من أي دولة غنية للبنان. لكن لو أضفنا عوامل أخرى على الموضوع قد يختلف الإستنتاج.   حوالي نصف مليون لبناني يعيشون ويعتاشون في دول الخليج العربي. عدد كبير يوازيه رقم ضخم من التحويلات المالية السنوية يلامس 5  مليارات دولار.
مكمن الخطر هنا،  ما البديل لهؤلاء؟ فلننسى الموضوع المالي على الرغم من أهميته ولننظر للأمور من زاوية أخرى. هؤلاء اللبنانيون قضوا مدة من الزمن في الخليج العربي وأقاموا شبكة علاقات إجتماعية وثقافية وإندمجوا في مجتمعاتهم وأي ترحيل جماعي لهم هو طلاق ثقافي وخطر إجتماعي على كلا الطرفين ومن هنا الحاجة إلى الندية في العلاقات.

أضف أن لبنان عضو مؤسس في جامعة الدول العربية وعلاقته مع العرب ينتظم ضمن إطار التضامن العربي وفي ظل غياب دور مصر الإقليمي وضعف سوريا والعراق أصبحت المملكة العربية السعودية العمق الإستراتيجي لمفهوم" العروبة"  بحلتها الجديدة محاولة التنصل من " الإسلام السياسي السني" الذي ظهر بأبشع صور له في الآونة الأخيرة.

هذا الدور تقوم به إيران أيضا فتقدم نفسها على أنها جمهورية للغرب متنصلة من " الإسلام السياسي الشيعي" وثورة في الإقليم  متمسكة بهكذا نوع من الإسلام. لذلك فالمملكة والخليج يشكلان مدى إستراتيجي إقتصادي وإجتماعي وثقافي حيوي للجمهورية اللبنانية.

هذه المعطيات لا تحشر لبنان في زاوية الإستسلام لسياسات المملكة أو الخضوع لها بل عليه أن يستغلها للإستثمار والتطوير على قاعدة علاقات ندية تؤسس لشبكة أمان على كافة المستويات. فالنظرة للسعودية يجب أن تكون موضوعية بعيدة عن الشعارات التي تضر بمصالح الجميع. فالقصة ليست قصة أنها السعودية وأن عائلة مالكة فيها تتحكم بالأمور بل هي قصة معطيات وسياسة واقعية لا يمكن تخيل مدى أضرارها على المدى البعيد إذا ما وصلت الأمور إلى نقطة اللارجعة. والمملكة التي تمارس دور إقليمي واضح لأول مرة منذ تأسيسها ليست قدر لبنان وخياره الوحيد المغلق لكنها في نفس الوقت تحدي وفرصة ومصلحة لا يمكن تجاهلها أو إستفزازها.
  وليس المطلوب من لبنان أيضا مواجهة إيران فهي تعتبر مرجعية سياسية لفئة كبيرة من اللبنانيين ولكن على إيران أن تتفهم حساسية الواقع اللبناني كما تفهمه العرب سابقا. وفي ظل الصراع الإيراني السعودي المحتدم،  على لبنان أن لا يكون ساحة لتصفية الحسابات بل حكما في هذا الصراع المرير. فاللحظة التاريخية التي يعود فيها الرشد إلى عقول الساسة اللبنانيين هي اللحظة التي يقبلون لبنان الحكم الذي يسعى إلى تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين. ولن يرتقي لبنان إلى مستوى الحكم إلا عندما يطبق سياسة النأي بحذافيرها من دون أي إستثناء ويحقق الوحدة الوطنية الحقيقة القائمة على الحرية والسيادة والإستقلال.
  ولكن تشنج الوضع العام اللبناني لا يبشر بالخير ،  قد تؤشر نتائج الإنتخابات الإيرانية والهدنة السورية إلى أمر جديد قد يطرأ على سياسات المنطقة ككل. لذلك إستباقا لقطف ثمرات التسوية على اللبنانيين والعرب أن يصوبوا علاقاتهم على قواعد الندية والمصالح والمصير المشترك ليؤسسوا لاحقا لشراكة إستراتيجية مع إيران. تبدو صعبة ومستحيلة وغامضة ولكن الواضح هو مصلحة لبنان التي لن تتحقق بلعبة " المحاور". فإيران موجودة والسعودية موجودة أيضا.
  فلتصوب العلاقات لمصلحة الجميع أما الإعتذار فبالطبع "لاء"  لأن الإعتذار لعبة " ولاد" لن يغير موازين القوى ولن يضمن تكرار ما حصل.