بعد ثلاثة أسابيع على إطلاق المخطوفين التشيكيين الخمسة، في صفقة تبادل مع الموقوف في براغ علي طعان فيّاض، يصل وفد أمني فرنسي رفيع إلى بيروت في مهمة تتصل بالملف. فما هي علاقة فرنسا بالقضية، وماذا جاء يفعل هذا الوفد؟ في معلومات لـ«الجمهورية» من مصادر ديبلوماسية غربية أنّ وفداً رفيعاً من الأمن السياسي الفرنسي يصل إلى بيروت اليوم للقاء مسؤولين لبنانيين رفيعي المستوى حول مسألتين:

1 - تقديم واجب الشكر إلى هؤلاء المسؤولين لما بذلوه من جهد لتحقيق الإفراج عن المخطوفين.

2 - البحث في سبل تفعيل التنسيق الاستخباري بين فرنسا والأجهزة اللبنانية خصوصاً في ما يتعلق بالإرهاب. وهذا الأمر يستتبع تفعيل التنسيق أيضاً مع أجهزة أمنية لها دور مهمّ في هذه المرحلة، ولا سيما منها أجهزة الأمن في سوريا.

ولذلك، قد تكون للوفد الأمني الفرنسي لاحقاً زيارة لدمشق، يلتقي فيها مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى، ما يتيح تطبيع العلاقات الأمنية بين باريس ودمشق، بعد قطيعة نتجت من الموقف الفرنسي الشديد الإنحياز ضدّ نظام الرئيس بشّار الأسد.

وسيكون اللقاء الأمني الفرنسي - السوري، في حال حصوله، الأوّل من نوعه منذ مدة طويلة. فخلال هذه الفترة، لم يلتقِ الطرفان مباشرة إلّا هامشياً، وفي بعض المناسبات، في دول أخرى في الشرق الأوسط أو خارجه.

ويحتاج الفرنسيون إلى ترتيب العلاقات الأمنية مع دمشق الأسد، لأنّ سوريا هي الساحة الأساسية للجماعات الإرهابية التكفيرية التي بدأت تهدِّد أوروبا، والتي كان الفرنسيون أبرز ضحاياها قبل شهرين. ومن شأن الاتصالات التي يجريها الوفد الأمني الفرنسي في بيروت أن تفتح الأبواب لانفتاح على سوريا.

أما لماذا يقوم الفرنسيون بتوجيه الشكر إلى الأمن اللبناني على دوره في ملف المخطوفين التشيكيين الخمسة، وما علاقة فرنسا بملف يخصّ تشيكيا وحدها؟

المصادر الديبلوماسية تكشف أنّ فرنسا وضعت ثقلها بكامله لتحرير الرهائن، لأنّ ضابطاً فرنسياً في جهاز الأمن الخارجي (DSGE) برتبة رائد كان في عداد هؤلاء المخطوفين. وهذا الضابط هو الشخص الخامس الذي اختلفت المعلومات حول هويّته، وتردَّد أحياناً أنه رائد في الاستخبارات التشيكية.

وبداية القضية هي أنّ هذا الضابط، ضمن الفريق الذي تعرَّض للخطف في تموز الفائت، على طريق كفريّا في البقاع الغربي، كان يتحرَّك في مهمة بحث عن الجهاديين الوافدين من سوريا أو الداخلين إليها عبر المنطقة الحدودية في البقاع الغربي وصولاً إلى شبعا في الجنوب.

المهمّة كانت تقضي بالوصول إلى لبنان، تحت عنوان تنفيذ تحقيق صحافي عن مسقط رأس علي فياض، بلدة أنصار الجنوبية. لكنّ الجانب السرّي منها كان يتعلق بجمع المعلومات عن الجماعات الجهادية في المنطقة الحدودية بكاملها، خصوصاً في البقاع الغربي حتى شبعا. ولذلك، كان يُفترض أن تستغرق وقتاً أطول من الوقت المعلن لها.

وجرت تغطية مشاركة الضابط بمراسلين صحافيين. وهو انتحل صفة مصوِّر صحافي. ورافق الثلاثة مترجم تشيكي من أصل سوري ومحامي علي فياض التشيكي الجنسية. وجاء الوفد التشيكي إلى لبنان، عبر المطار، في مطلع أيار 2015 مستكشفاً، قبل أن يعود في تموز.

ولكن، يبدو أنّ المعنيين بملف فياض وذويه، الذين عرفوا بالمهمة، قرَّروا استثمارها ليحصلوا على ورقة ضغط تحقّق لهم مطلبهم بالإفراج عن إبنهم الموقوف منذ العام 2014، بناءً على مذكرة توقيف أميركية، بتهمة بيع أسلحة لمنظمات غير مشروعة لدول في أميركا اللاتينية لمصلحة «حزب الله».

وعند وصول الوفد إلى المطار في 18 تموز، عرض صائب فياض، شقيق علي، مرافقة الوفد بذريعة إرشاده إلى مصادر المعلومات. وتولّى نقل التشيكيين بسيارة «ميني فان» من نوع «كيا»، عُثر عليها لاحقاً في المحلة، إلى مناطق عدة في البقاع، قبل أن يدبِّر اختطافهم لمقايضتهم بشقيقه.

وعلى أثر عملية الخطف، تحرّكت تشيكيا بإرسال وفد من جهاز الأمن الخارجي إلى بيروت، حيث أقام لمدة، وأجرى اتصالات مكثفة مع الأجهزة الأمنية اللبنانية، وخصوصاً مع المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم حول الملف. وتبلّغ السفير التشيكي في لبنان، على الأثر، أنّ هناك خيوطاً بدأت تظهر حول مكان احتجاز هؤلاء، إلّا أنّ أيّ تطوُّر عملاني لم يطرأ على الملف.

ويحمل فياض الجنسية التشيكية إضافة إلى جنسيته اللبنانية، وهو كان يحمل صفة مستشار لوزارة الدفاع الأوكرانية، لكنه ليس موظفاً في الإدارة هناك ولا يحمل صفة رسمية. ولقبه الاستشاري يتأتى من كونه رجل أعمال اضطلع بدور في عمليات بيع الأسلحة بين روسيا وأوكرانيا في المرحلة السابقة للعداء بين الدولتين.

عندما تعثَّرت المفاوضات حول المخطوفين واستغرقت أشهراً، خشيت فرنسا أن يُفتَضح أمر الضابط المشارك في العملية. وقرّرت أجهزتها الأمنية، ولا سيما منها جهاز الأمن الخارجي، التحرّك ومتابعة الملف عملياً مع الجهات القادرة على تحقيق تقدُّم.

ولذلك، قامت فرنسا، بعد أشهر من عملية الخطف، بجسّ نبض مسؤولين أمنيين لبنانيين رفيعي المستوى، ومعروفين بجدارتهم وكفايتهم، وسألتهم إمكانَ تدخُّلهم من باب المعلومات للتحرّي عن مكان الخطف وهويّة الخاطفين، لعلَّ ذلك يقود إلى تسهيل الإفراج عن المخطوفين، فيبقى أمر المهمة الأساسية التي كانت منوطة بضابط الاستخبارات سرّية. ونجح هؤلاء المسؤولون الأمنيون في طمأنة الفرنسيين الى أنّ المخطوفين في خير.

وبعد ذلك، بدأوا حملة اتصالات عبر الأقنية الفاعلة، والتي تمون على الجهات الخاطفة، أدّت في نهاية المطاف إلى تحرير الرهائن في هدوء، تزامناً مع إطلاق علي فياض من سجون براغ.

وصباح الأوّل من شباط، تسلَّم الأمن العام اللبناني المخطوفين التشيكيين في منطقة الكسارات، الواقعة بين السريرة الجنوبية وميدون في البقاع الغربي، وفي الموازاة، وصل الموقوف فياض إلى بيروت من دون أيّ ضجيج أو أضواء إعلامية، وأُسدِلت الستارة عن الملف.

واكتفى جهاز الاستخبارات التشيكية بالاطّلاع على اللمسات الأخيرة للعملية. كما اكتفت وزارة الخارجية التشيكية، بعد إنجاز العملية، بالقول: «إنّ التحقيق الذي تجريه وحدة مكافحة الجريمة المنظمة في الشرطة التشيكية لا يزال جارياً». ويوحي هذا البيان بأنّ براغ اكتفت بالإفراج عن مخطوفيها من دون أيّ رغبة في إثارة سجالات حول الحيثيات.

ولكن، المثير بالنسبة إلى بعض الأوساط السياسية المتابعة للملف، هو الغموض الذي واكب قضية المخطوفين التشيكيين من بدايتها إلى نهايتها. إذ لم يصدر عن وزارة الداخلية اللبنانية أيّ بيان حول العملية، ولم تتم أيّ متابعة لتداعيات القضية.

ولذلك، ثمّة مخاوف من حصول عمليات خطف مماثلة لاحقاً، خصوصاً بعدما إعتقلت السلطات الفرنسية أربعة لبنانيين بتهمة تبييض الأموال لمصلحة «حزب الله»، بناءً على مذكّرة أميركية، وهم: محمد نور الدين، مازن الأتات، علي زبيب وأسامة فحص.

وتسأل المصادر: مَن يضمن عدم حصول عملية خطف لفرنسيين في لبنان بهدف تحرير اللبنانيين من السجن الفرنسي قبل تسليمهم إلى أميركا؟ فقد تكرّر سيناريو احتجاز الرهائن في لبنان، سعياً إلى تأمين الإفراج عن مخطوفين آخرين. ومن النماذج مثلاً، قضيتا مخطوفي أعزاز وهنيبعل القذافي.

وهنا تُطرَح الأسئلة الآتية: هل بات لبنان غابة مفتوحة لعمليات الخطف المدروسة؟ وهل عاد إلى مرحلة مماثلة مرّ بها في الثمانينات من القرن الفائت؟ وهل هذا جزءٌ من عملية الاهتراء اللبناني المتنامي؟