ما الحاجة إلى الدولة في بعض جهات الأرض؟ أسأل هذا السؤال بنَفَس سلبي جدا. لماذا تنوجد بعض الدول إذا لم يكن هناك مجتمعٌ جاهزٌ لها وليست هي نفسها جاهزة لكي تكون دولة، وليست نخبها مهيَّأَةً لتركيزها أو تجديدها كدولة؟

لا أتساءل بهذه الطريقة بعد قراءتي كتابا لأرسطو أو لهيغل أو للينين وإنما بعد قراءتي كتابا لن يخطر على بال كاتبه أنه سيثير عندي هذا النوع من الأسئلة الوجودية عن "الدولة" كفكرة وككائن. الكتاب هو "مسالك وعرة - سنتان في ليبيا ومن أجلها" والكاتب هو طارق متري الأستاذ والباحث الدائم والوزير والديبلوماسي السابق.
أفعل ذلك لأن هذا الكتاب الغني بالمعلومات والملاحظات عن تجربة مهمة لشخص شغل منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا البلد المنكوب لمدة سنتين، يجعل القارىء يسأل وربما يستنتج أنه لا حاجة لوجود دولة ليبية في ظل هذا القدر الذي آلت إليه نخبها وجماعاتها من التفكك و التذرّر والفئوية والتبديد المذهل لثروات مذهلة؟
لم يخلص طارق متري قطعا إلى هذا الاستنتاج ولكنه أخبرنا بدقة وتهذيب لا يمنع الصراحة تفاصيلَ التفاصيلِ عن الحالة القائمة هناك كحلقة مُفرَغة لا نهاية لها.
نعرف جميعا أنه في عالم اليوم سؤال مدى الحاجة إلى الدولة بات يتعلّق بدول عديدة في العالم، تلك التي تنضوي، في ظروفٍ كلٌّ منها مختلف عن الآخر، ضمن خانة "الدول الفاشلة" وبات عدد ملموس منها موجودا بصورة خاصة في العالم العربي وإفريقيا.
يذهب طارق متري في خطّين إخباريّيْن واستنتاجيّين متوازيين على مدى كتابه (344صفحة) والصادر في كانون الأول 2015 عن دار "رياض الريس للنشر". الخط الأول هو إظهار التناقضات الشخصية والمناطقية والسياسية في المجتمع الليبي الذي وجد نفسه يرث فجأة حقبة معمر القذافي، وبصورة شبه دائمة إظهار مسؤولية النخب الليبية الفادحة عن استمرار تدهور الأوضاع في ذلك البلد الشاسع جغرافيا وليس سكانيا. أما الخط الثاني فهو إظهار مسؤولية الدول الكبرى والفاعلة، من حيث التناقضات أو من حيث الإهمال في المساهمة بهذا التدهور.
دعوني أبدأ باللغة.
مع أن طارق متري ليس ديبلوماسيا بالمهنة فإن الكتاب نموذج لتقرير ديبلوماسي كاشف من شخص مطلع ومهموم بتفاصيل التفاصيل وبوضعها في الإطار العام الذي يكمل إيضاحها. بهذا المعنى فهو كتاب دقيق انتقل من الأكاديميا إلى الديبلوماسية انتقالا متأخرا يستمتع به الكاتب في الرقص - ولا أعني بذلك اللعب- بين حدّيه، وهما الحذر والمكاشفة.
تخيّل إذن أية مهمة صعبة اختارها لكتابه عن مهمة ديبلوماسية لا يكف عن تكرار مدى صعوبتها التي تبلغ أحيانا حد الاستحالة.
لو أن ديبلوماسيا أميركيا احتلّ هذا المنصب الرفيع والمؤثر لكن دون سلطة فعلية، وهذا مستوى كبير آخر من مستويات الكتاب لأنه يتعلق بكل وضع ومعنى منظمة الأمم المتحدة في العالم... لكان هذا الديبلوماسي الأميركي قد وضع عنوانا للكتاب بالمفردات التي تحبها الثقافة السياسية الأميركية وطارق متري أحد خريجيها وإن كان ليس بالضرورة مناصرا لكل تجلياتها. هذا العنوان هو: هل إعادة بناء "الأمة الليبية" مستحيلة؟ وبين المزدوجَيْن ترجمة لتعبير Nation building الذي شاع في اللغة الديبلوماسية بتأثير الدور والبروباغندا الأميركيين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. مع أنه ربما الأفضل هنا ذكر أحد أبرز الكتب التي أنتجتها تلك الحقبة وهو كتاب فرانسيس فوكوياما "بناء الدولة" كمهمة "مؤسساتية" أساسية في النظام العالمي الجديد وفي الدور الأميركي فيه. فالأميركيون بفعل تجربتهم ذاتها لا يفصلون بين الدولة والأمة خلافا للأوروبيين كما يلاحظ فوكوياما في كتابه، وكما عليّ أن أضيف هنا أنه فصلٌ بين الدولة والأمة موجود عند العرب المعاصرين طبعاً.
وقبل أن أنتقل إلى تفاصيل الكتاب أجد أنه عليّ أن أشير إلى أن كتاب طارق متري، بالنسبة لكلية علوم سياسية وطلابها يجب إدراجه في لائحة الكتب النموذجية على تجارب ومحاولات عملية رئيسية لـ "إعادة بناء الأمة - الدولة" في ربع القرن المنصرم على المستوى الدولي. وهو مسار دخله العالم العربي بقوة مفاجئة ودراماتيكية بعد "الربيع العربي" سواء سمَّيْنا ما حدث انهيارا شاملا أو ثورة أو حروبا أهلية.
يبدأ متري مبكرا في إخبارنا بأن "النظرة السائدة في صفوف الثوار لا تقيم أي اعتبار للقوى المسلحة" أي الجيش (ص44). لكن كلمة "الثوار" تأخذ مع سرد الكتاب بالتوضّح بسرعة باعتبارها صفة قبلية وجهوية في العديد من الحالات وأبرزها "أهل مصراتة" الذين قاتلوا قوات القذافي "وقدموا تضحيات كبيرة" وتصرف العديد منهم بروحية انتقامية مع أهل "بني وليد" الذين اتُّهِموا دون تمييز بتأييد القذافي. وهذه حالة بارزة لكن الكتاب لن يكف عن عرض حالات أخرى في مناطق عديدة في الغرب والشرق والجنوب يختلط فيها الثأر "الثوري" بالحساسية القبلية وأحيانا العرقية كالأمازيغ.
ردهات المؤسسات "السلطوية" التي نشأت بعد سقوط القذافي وتناقضات شخصياتها وتنوعها تمتد خلال سنتي تكليفه، يؤرّخها طارق متري أو يؤرخ تجربته من خلالها وكلها تنتهي عبر التنافس على "الشرعية" إلى هزال مبكر ومتجدد للسلطات الممثلة للدولة. وهو ما يعبِّر عنه طارق متري في واحدة من أفضل تعابير كتابه: "إضعاف الدولة الضعيفة" (ص 134)، حيث يتقاضى أكثر من ثمانين بالمائة من القوى العاملة رواتبهم من الدولة حسب ما أَطْلَعَ صندوقُ النقد الدولي الكاتبَ عليه. وهو البلد نفسه الذي تشكِّل عائداتُه النفطية ثمانين بالماية من الناتج القومي(ص 162).
المؤتمر الوطني العام، الحكومة، وزارة الدفاع، وزارة الداخلية، الثوار، الإخوان المسلمون، إقليم برقة، الفدراليون، فزان، وغيرها عشرات التوصيفات والأسماء والأفراد مما يجعل طول الأناة ضرورية لقراءة الكتاب رغم سلاسته. وهو إذ يدين ما يسمّيه "بؤس الإعلام" ويحمِّله مسؤولية تردي مستوى الحملات، بمن فيها عليه هو شخصيا، لا يتردد في شرح نقدي لنزوع قوى سياسية أساسية إلى كبت حرية الإعلام أو ما يصفه بأنه "نزعة غير واعية إلى اقتداء الضحية (سياسيو العهد الجديد) بجلاّدها" ( القذافي) (ص229).
سأضطر للانتقال، بسبب كثافة المعلومات وبالتالي استحالة الإحاطة حتى العامة بها في هذه المراجعة ومن ضمنها التنافس الإماراتي والقطري في ليبيا، الى مستوى آخر حاضر في كل ثنايا الكتاب لأنه في أساس مهمة طارق متري كمبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة وهو مستوى مجلس الأمن الدولي.
بتدرّجٍ سيلمسُ طارق متري من خلال مداولاته في الأنشطة المتعلقة بليبيا بين وقت وآخر في نيويورك محدودية اهتمام الدول الكبرى بالوضع الليبي بعد إسقاطها القذافي. فهو يشير بوضوح إلى قصور الدعم، وليس غيابه، بسبب الأولويات الأخرى لدى هذه الدول وتناقضاتها في آن معا.
هنا سأشير إلى أمرين:
الأول يحمل قدرا من الطرافة وهو كيف يقدِّم الكاتب الحاضر في مجلس الأمن دور المندوب الروسي في الموضوع الليبي من حيث أن كل مرافعاته تكرر الإشارة إلى مسؤولية الغرب عن التدهور الليبي بسبب التدخل العسكري "المخالف" لقرار مجلس الأمن والذي أدى إلى إسقاط قسري للقذافي. يتهكّم متري ضمنا على أن المندوب الروسي لم يكن مهتما في كل جلسة حول ليبيا سوى في تكرار إثبات صحة وجهة نظر بلاده أو ما بات معروفا في العالم، والكلام لي هنا وليس لمتري، بِـ "خدعة" الغرب لروسيا في ليبيا.
الأمر الثاني شديد الدلالة وهو المتعلِّق بموضوع الأسلحة المحظورة التي تركها القذافي. هنا من المثير أن نعرف أن الحكومة الليبية، كذلك طبعا طارق متري (وبعثة الأمم المتحدة الكبيرة التابعة له)، لم تكن لديهما معلومات كافية ودقيقة حول الموضوع. لا بل حاول طارق متري من موقعه أن يعرف شيئاً من بعض سفراء الدول الغربية الكبرى إلا أنه لم يتمكن من ذلك رغم أن هذا، شكلاً، من ضمن مهمات منصبه. هذا يجعلنا نستنتج أننا هنا أمام ملف يكشف بسبب استراتيجيته هامشية الأمم المتحدة غير المسموح لها التدخل بقضية من هذا المستوى ناديها يقتصر على دول عظمى. وسيترك طارق متري منصبه وهو لا يعرف شيئا جديا عن الأسلحة المحظورة ذات الإشعاعات من اليورانيوم والصواريخ والتي كان إسمها المتداول"الكعكة الصفراء" (ص 188 - 192).
يأتي طارق متري من "التروما" اللبنانية. يعني من بلد حرب أهلية، أيا تكن اختلافاتها عن الحرب الأهلية الليبية الحالية، فهي تتيح معرفة واختبار كيف أنه لا مجتمع من دون دولة. الدولة، خصوصا حيث حدود الكيان رُسِمت من الخارج، ولو بدعم قوى محلية. وأكاد أقول، بعد انهيارات السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد قراءة هذا الكتاب أن الدولة تَصْنَع المجتمع.
في النتيجة هذا الكتاب هو تقرير متنوِّر ونقدي لمجتمع كأي مجتمع "جنوبي" بنخبه وأوباشه ولدول تلعب بحربه الأهلية وبنفطه وبموقع بلاده في صراعات المنطقة.