بدأ  رفيق الحريري يذيع صيته في الدوائر الديبلوماسية منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي إبان الحرب الأهلية اللبنانية.
  كان دوره في تلك الفترة من الحرب محصور في تسهيل عقد الإتفاقيات بين الأطراف المتنازعة ونقل وجهات النظر للأطراف المتخاصمة لبعضها البعض فكان قناة الإتصال في فترة إنتفاضة 6 شباط 1984 بين أمين الجميل ونبيه بري قائد الإنتفاضة حينها. هذا الدور الذي رسمته دوائر سياسية في الإقليم خصوصا السعودية كان له رؤية مستقبلية طموحة تتجاوز دور الحكم وساعي البريد إلى دور فاعل في اللعبة السياسية اللبنانية والتحول إلى معادلة بحد ذاتها كما حصل فيما بعد.
  حقق الشيخ رفيق كما يحلو له أن يسميه الناس دورا مهما في إنجاز إتفاق الطائف 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية. هذا الإتفاق أنهى مرحلة الحرب وأطلق مرحلة العمران في البلاد بمعنى آخر كانت مرحلة رفيق الحريري قد بدأت أو ما بات يعرف بحقبة الحريرية السياسية.
  الحريرية السياسية هي نظام بحد ذاته شاءت الأقدار والبروباغندا المقصودة أن تصورها بأنها مختزلة فقط بشخص الحريري لحسابات سياسية وإقليمية. هذا النظام ضم الخصوم والحلفاء. وفي محطات سياسية مختلفة إختلط الحابل بالنابل فأصبح حليف اليوم خصم الغد ضمن لعبة سياسية لا يصمد فيها إلا القوي.
  بالطبع رفيق الحريري كان قويا ومصادر قوته عديدة منها شعبيته البيروتية خصوصا والدعم العالمي لمشروعه وخصوصا السعودي. فإستغل هذا الدعم ليصرفه في الداخل مشاريع عمرانية وإنمائية في البلد كمشروع وسط البلد " سوليدير"  ومشروع "أليسار"  إضافة إلى مشاريع البنى التحتية في مختلف المناطق اللبنانية.
  ولتحقيق هذه المشاريع كان لا بد من سياسة تدوير الزوايا لأن العديدين ما كانوا ليسمحوا بهكذا نجاحات. إتبع الحريري لإسكات معارضيه سياسة الترغيب فإشترى النفوس. نعم فعلها ولا يلام بل من يلام هو من يسمح لنفسه أن يبيع نفسه

وكانت هذه السياسة نافعة وعملية وسلاح فعال بيده فهو يمتلك المال والسلطة في آن إلا أن هذه السياسة كانت في أحيان أخرى تحسب عليه لا له، فقد إستغلها خصومه  لإبتزازه ومن أدوات سياسة الإبتزاز هذه كانت خلق دعايات زائفة ونشر إشاعات مغلوطة بهدف تشويه صورته في وعي الناس لدرجة أن هذه الأفكار لا زالت موجودة في وعي الناس إلى اليوم. 
  نظام الوصاية السوري والجهاز الأمني اللبناني حينها لم يقصر،  فهم حكام لبنان الواقعيين ويسيرون دفة الحكم في البلاد وكانوا يبتزون ويسلطون على الحريري صبيانهم وغلمانهم ليكيلوا عليه الشتائم والتجريح.
  ولكن شخص كالحريري لا يقبل بدور الصبي في لعبة الكبار،  إستقال بعد إنتخاب الرئيس إميل لحود وإستلم مكانه رئيس الوزراء سليم الحص. كان الحص شخصية هادئة ومهادنة ووطنية ولكن لا ثقل شعبي له على الأرض حكم لمدة من الزمن وكان الحريري خارج السلطة لا المعارضة.
فنظام الحريرية السياسية  سلطة وخارج السلطة لا معنى لمفهوم المعارضة فيها. قد يلتبس الموضوع على البعض ولكنها حقيقة كانت. خسر خصوم الحريري الرهان على إضعافه فهم لم يفهموا أن الحريري قوي بالسلطة ومن دونها ومبررات وجود مشروعه أكبر من صلاحيات سلطة تعطى له وهذا ما أثبتته إنتخابات 2000 عندما إكتسح الحريري مقاعد بيروت وتسلم السلطة من جديد. لم تنجح المحاولة هذه المرة أيضا.
  فالإشاعات والدعايات الزائفة والإقصاء من السلطة كلها لم تنفع لأن الخصوم لم يفهموا جيدا أسباب قوة الرجل. فأبو بهاء كان خلفه الشرعية الدولية والشرعية العربية متمثلة بالسعودية ومصر وكان حلال مشاكل على مستوى الإقليم والعالم

كما أن نفوذه في دوائر السلطة اللبنانية أصبحت شاسعة وواسعة وممتدة ومتجذرة أيضا أضف إلى مسكه بملفات الإقتصاد والعمران والمصارف في البلاد وشعبية قوية في الوسط السني خصوصا في بيروت.

كذلك تجارب الحريري السابقة أنتجت ما بات يعرف بالترويكا والمتمثلة بالحريري- بري- الهراوي مع رضى وقبول جنبلاطي. هذه الترويكا أمنت شبكة تحكم بمصالح الطوائف الأساسية في البلاد مستغلة نظام الطائفية السياسية في لبنان.

وبالواقع كانت هذه الترويكا بمثابة شبكة أمان لحقبة الحريرية السياسية وقد شابها فساد إداري وواسطات ومحسوبيات لكن شابها نمو إقتصادي في البلد مع إستقرار أمني. فالموضوعية تتطلب منا  أن نذكر سلبيات الحريرية وإيجابياتها فهي ليست فساد فقط بل عمران ونمو إقتصادي أيضا. ولم تكن الحريرية السياسية مشروع من أجل تنفيذ أجندة وهابية في البلد،  فمشروعه وطني، نعم إستغل علاقته الطيبة مع السعودية وسخرها لمصلحة بناء البلد أما ما حصل من حملات تجنيس لبعض العرب فكانت لأغراض إنتخابية بحت وليست لهدف عقائدي. فالشخص الذي كان محاربا لفكر وعقيدة" القاعدة"  ومؤمن بالفكر الليبرالي الرأسمالي المتحرر والمتمدن ما كان ليتفق مع عقائد راديكالية ومتطرفة وما كانت السعودية لتطلب منه تنفيذ هكذا أجندة.
  هذا الإندفاع في مشروعه مر مع أخطاء أيضا،  فملف أصحاب الحقوق في الوسط بصمة عار في  مشروعه كذلك الفساد الذي إستشرى والذي بالمناسبة شارك فيه الجميع من دون أي إستثناء وكذلك القوانين الإنتخابية  الطائفية وسياسات الإنماء غير المتوازن.
  سجل للحريري أيضا موقفه الوطني إتجاه قضية الجنوب اللبناني خصوصا في موضوع المقاومة وكان له دور بارز في شرعنة عملها دوليا من خلال إتفاق نيسان 1996 الذي يعود الفضل فيه إليه. كانت علاقته بالمقاومة المتمثلة ب حزب الله متوترة في كثير من الأحيان فقضية جسر المطار تركت أثر سيء في العلاقة بين الإثنين والموقف من التمديد لإميل لحود عام 2004. كانت العلاقة مع الحزب صورة أولية عما تشهده المنطقة اليوم من صراع سعودي إيراني نعيشه اليوم.
  وعليه ومنذ بدء ملامح مشروعه في الثمانينات من خلال المنح التربوية للطلاب اللبنانيين والعمل على حل المشاكل بين اللبنانيين إلى وقت إغتياله تبلور مشروع رفيق الحريري وأصبح واضحا. هو مشروع وطني عربي معتدل في زمن العقائد الراديكالية مؤمن بالإنفتاح على الثقافات والحضارات في عصر التكنولوجيا ذات رؤية إقتصادية طموحة للبلد في زمن الهويات العرقية والإثنية والإنهيارات الإقتصادية وديمقراطي حر في عهود الظلام والخلافة والولاية.
  لذلك بعد فشل الدعايات والإشاعات والإقصاءات في القضاء على مشروعه جاء القرار بالتصفية الجسدية فكان 14 شباط 2005.
  لم يكن الهدف القضاء على الشخص بقدر القضاء على الدور الذي لعبه الشخص وخصوصا على المستوى الإقليمي والمحلي. فرجل كالحريري لا مكان له في عالم الإيديولوجيات الدينية السياسية وهو مصدر إزعاج لها وأيضا رؤيته الوطنية هددت أسس النظام السياسي وحماته الخارجيين القائم على فكرة التبعية العمياء للخارج.
  أخطىء وأصاب الحريري كما غيره لكن من الظلم الحكم على مشروعه بالمفرق.
  هو مشروع متكامل وذات رؤية وأمل بالنجاح وإلا لما قتل.
  وحدهم الكبار يموتون غيلة وإغتيالا.