يمر بالشرق الأوسط بأوقات تحل فيها الكوابيس والأوهام محل المأساة الواقعة والمتزايدة التي تنهش الأراضي العربية. وتتزايد دعوات السلام الصادقة بينما يتكالب المزيد من الدول على القصف الجوي من أقصى كابول إلى سواحل المتوسط مروراً بسيناء واليمن وليبيا.

إنه حمّام دم حقيقي، ومع ذلك ليس هناك أحد يخطط للمستقبل، لمستقبل المنطقة "ما بعد داعش". أرى أن 11 قوة جوية مختلفة تقصف 5 بلدان مسلمة من أجل "إضعاف وتدمير" أعدائهم، لكن ماذا بعد؟

علّمنا التاريخ أنه على مدار الـ100 عام المنصرمة سعت شعوب هذه المنطقة العظيمة والخطيرة من العالم لنيل العدالة، غير أنها لم تحصد سوى الظلم من احتلال أجنبي واحتلال بالوكالة وفسادٍ ودكتاتوريات وأذرع التعذيب، كلها سلبتهم القيمة الوحيدة التي ثارت ملايين الشارع العربي غداة صحوة 2011 العربية الكبرى من أجل استرجاعها، ألا وهي الكرامة. لكن ماذا قدمنا نحن؟ ولماذا لم نعالج قضايا الظلم التاريخية التي تسببت بهذا الزلزال الإنساني المدوّي؟

بدلاً من ذلك طفقنا نستدعي قوات وجيوشاً وهمية وكأن الحقيقية لا تخيف وترهب بما فيه الكفاية، فاختلقنا 35 ألفاً من الحرس الثوري الإيراني في سوريا، في حين أن عددهم قد لا يزيد على 1000 فقط، كما تخيلنا كذلك وجود 20 ألفاً من أفغان الهزارة الشيعة وجيش عرمرم من الميليشيات الشيعية العراقية في سوريا، و10 آلاف أخرى من مقاتلي حزب الله، وكل هذا قبل أن تحضرنا صورة جيش ديفيد كاميرون الوهمي الذي قوامه 70 ألف جندي كلهم يفدي الديمقراطية بروحه ودمه.
نسمع أن الأتراك موشكون على احتلال سوريا، لكن لا نرى من ذلك شيئاً، ثم تأتي مملكة الخليج حليفتنا لتقدم آلاف الجنود السعوديين للقتال في سوريا ضد "داعش"، لكن طبعاً عليهم أولاً ركن سياراتهم المرسيدس الليموزين المكيفة وراء خط النار الأمامي.

ماذا عن الروس؟ أتعجب أن أحداً لم يصرخ بأن الروس لبّوا النداء وحضروا إلى سوريا بسرعة حتى قبل أن يذوب الثلج عن أحذيتهم.
هذا جنون. يُصاب الأوروبيون بالهلع عندما يعبر مليون لاجئ حدودهم، لكن مع أن المجر تزيدنا من الشعر بيتاً بقولها إن حدودها هي حدود العالم المسيحي، إلا أن أحداً لم يُنادِ بمعالجة القضايا الأصلية لكل هؤلاء المساكين. مهووسون نحن بإقناع تركيا بالحد من تسرب اللاجئين وطالبي اللجوء إلى أوروبا، لكن ليست لدينا خطط طويلة الأمد لشرق أوسط جديد سيقلل أعداد هؤلاء اللاجئين.

نثرثر حول معاناتنا من أكبر تدفق للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، لكن في الحرب العالمية الثانية (الحقيقية) كان قادة الحلفاء يخططون لعالم ما بعد الحرب – الأمم المتحدة - قبل سنوات على وضع الحرب أوزارها. اليوم لا أجد سجلاً واحداً لقائد عربي أو عالمي تحدث عما سيبدو عليه الشرق الأوسط مستقبلاً. لماذا لا نباشر التخطيط من الآن؟
عندما انتهت الحرب العالمية الأولى - التي دمرت الإمبراطورية العثمانية وسحقت آخر خلافة بعد عدة سنوات - انطلقت أفواه وحناجر العديد من الدبلوماسيين الأميركيين في الإمبراطورية المتهالكة و"المؤسسات غير الحكومية"، غداة ذاك الزمان (التي كانت بالطبع مؤسسات تبشيرية) داعية إلى أمة عربية واحدة يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم من الأقليات مواطنينَ لدولة تمتد أراضيها من المغرب إلى حدود الرافدين المتاخمة لبلاد فارس (العراق وإيران حالياً).

لكن الولايات المتحدة بالطبع فقدت اهتمامها بهذه الأحلام الويلسونية المثالية، في حين كانت لدى الإنكليز والفرنسيين خطط أخرى شرعوا في تنفيذها و"انتدب" كلٌّ نفسَه على البلدان التي من اختياره.

من هنا بدأ عصر "المذلة"، عصر الاستعمار الغربي والمحتل الأجنبي وجلاديه وشانقيه الذين سلبوا الشعوب كرامتهم، والآن بعد مضي 100 عام نرى ذروته المرعبة المتمثلة في تلك "الخلافة" الرهيبة التي تتفشى مثل وباء إيبولا حول العالم.

لكن ما يحتاجه الشرق الأوسط المسكين الآن ليس المزيد من الضربات الجوية، بل جلوسَ من بقي من سكانه - إضافة إلى من غادروه - والتفكّر المستنير بحثاً عن مستقبل الوطن الذي يريدون العيش فيه.

ما المؤسسات التي في وسعها حل محل متاريس الشرق الأوسط القديم المتهالكة؟ من الذي يمكنه مثلاً استبدال الخطباء الهزليين الركيكين على شاشات الإعلام العربي الذين حركوا العديد من الشرور؟ كيف أضعف هؤلاء وأوهنوا جسد الإسلام؟ لي صديق مسلم قديم (سني المذهب إن أردت أن تعرف) لخّص لي الموقف كله بعبارة بليغة ذات يوم بقوله: "الإسلام يخشى داعش، أما داعش فلا يخشى الإسلام".

وهكذا فلنبتدئ من هنا: لم لا نبدأ في تأسيس شرق أوسط جديد أساسه ليس النفط والغاز – اللذين سيبقيان - بل التعليم؟ عماده ليس قصور الدكتاتوريات بل الجامعات، وصروحه ليست غرف التعذيب بل المكتبات.

لقد كان الإسلام في قلب كل الجامعات القديمة العريقة في الشرق الأوسط، ولم تكن المعرفة خاضعة لسطوة الدين وسيطرته، بل إن العلوم والمعارف هي التي عززت وأثرت الدين والإيمان. بالعلم والتعلم تأتي العدالة، والعدالة فقط هي التي ستدمر "داعش". قد يبدو ذلك أشبه بكلام خطابي واعظ، لكني على يقين بأنه كان سيروق لعرب ويهود إسبانيا الذين عاشوا في الأندلس قبل 700 عام (إلى أن طردناهم على أيدينا طبعاً).

لاحظت من قبل أن إمارة أبوظبي على خلاف دبي شددت على أهمية التعليم الجامعي الرفيع لمواطنيها، ونرى في الشرق الأوسط أن نقص التعليم – والتي هي سياسة غذاها القادة الدكتاتوريون بالطبع - يسري في أوصال الأمة كسرطان خبيث، حيث إن نقص التعليم في الواقع وبالٌ ووباء يتفشى وينتشر.
ولنا أن ننظر إلى أحوال عشرات الآلاف من أطفال اللاجئين السوريين في لبنان الذين سيعودون يوماً ما إلى ركام وخراب بلادهم من دون تعليم أساسي للقراءة والكتابة يمدون به الأجيال القادمة.

لست أطيق الكليشيهات والعبارات المكررة الخاوية من المعنى مثل "عندما تصمت البنادق". لكن المدارس والجامعات ستكون أمضى وأكثر فتكاً بداعش من قصف جوي. هكذا تعالج الكوابيس.

كتب روبرت فيسك في الإندبندنت