تشكل انتفاضة السادس من شباط من العام ١٩٨٤  نقطة مصيرية في تاريخ لبنان الحديث فهي نقلت لبنان من حالة سياسية واجتماعية وثقافية  الى حالة اخرى. ولا يمكن فهم ما حصل دون ذكر الحالة القائمة قبلها. هذه الحالة التي كانت اسرائيل فيها اليد الطولى في قرار لبنان فحاولت تكريس لبنان كمستوطنة لها تحتلها بفرقة موسيقية وتحول ساسته الى عازفين على اللحن الاسرائيلي. هنا كان الصراع على لبنان لان لبنان بوابة الشرق الأوسط وهو الصورة المصغرة لكل المنطقة فجعل لبنان تابعا لإسرائيل يعني جعل الشرق الأوسط كله منطقة إسرائيلية خالصة بمعنى آخر كان لبنان حاجة استراتيجية لإسرائيل. فالنظرة الواقعية إلى الإنتفاضة يفرض علينا العودة الى بدايات الحرب الأهلية اللبنانية والفرز الذي أنتجته والتراكمات التي حصلت والتي أدت الى انفجارات ومعارك ضمن مسلسل طويل توجت فيه بدايات ملامح صورة لبنان النهائية في الانتفاضة.
  كان اليمين واليسار اللبنانيان في صراع وجودي فإسرائيل كانت داعمة لليمين الذي تحسس من خطر وجودي من اليسار واليسار كان دعامته الاساسية منظمة التحرير الفلسطينية أما سوريا فكانت تلعب مع وعلى الجميع وتشاكس هنا وهناك. فسوريا سياسيا كانت شبه مقربة من اليسار اللبناني على الرغم من العداوة القاسية معه فلم يربطها مع ابو عمار علاقة ودية ولم تكن علاقتها بزعيم اليسار الأبرز كمال جنبلاط بالجيدة حتى انها متهمة باغتياله ولم تكن علاقتها طبيعية مع اليمين بقيادة الكتائب اللبنانية والأحرار من خلال الثنائي الماروني بيار الجميل وكميل شمعون ولاحقا بشير الجميل اما علاقتها مع الرئيس الراحل سليمان فرنجية فكانت جيدة.وسط هذه الضبابية برز نجم رجل سياسي يمثل حالة سياسية خاصة بحد ذاتها وهو موسى الصدر الذي جاء بحالة وطنية خالصة مع علاقات طبيعية مع جميع الدول ما عدا اسرائيل واستطاع بخطابه ان يشكل حالة وطنية عابرة للطوائف فبدا يزعج الدول والحالات المؤثرة في القرار اللبناني. فالقرار كان واضحا في لبنان وهو منع إقامة اي حالة لبنانية وطنية خالصة وترجم هذا القرار في اخفاء الامام الصدر.
    إسرائيل كانت تبحث عن دور فدعمت اليمين ضد اليسار وبالأخص الفلسطيني بينما كان اليسار متمزق وسبب تمزقه هو الدور السوري في اللعب على الاوتار .أمام يسار تطعنه سوريا ودعامته منظمة التحرير كان هناك يمين لبناني قوي وصلب ومتوحد تحت قيادة الكتائب وجناحها العسكري القوات الذي خاض معارك عسكرية ضد الفلسطينيين ولاحقا مع الجيش السوري .
كان دور سوريا غير مفهوم فتارة تحارب مع اليمين وتارة تحارب مع اليسار الا ان الشيء الوحيد المفهوم هو انها كانت لا تطيق منظمة التحرير الفلسطينية. ورافق هذا الواقع اجتياح إسرائيلي في ١٩٧٨ واجتياح اخر في ١٩٨٢ كان وقعه صادما على الفلسطينيين الذين اخرجوا من بيروت بمظهر مذل عبر البحر بعد ان سقطت ثاني عاصمة عربية بيد الصهاينة وتشتت ما بقي من اليسار ورافق هذا الاجتياح مجازر  أشهرها مجزرة صبرا وشاتيلا بحق الفلسطينيين العزل في المخيمات بتنسيق بين الإسرائيليين والقوات. هذا النجاح العسكري لليمين اللبناني المدعوم من الاسرائيلي أريد له ترجمة في السياسة فكان انتخاب بشير الجميل أقوى زعيم مسيحي حينها رئيساً للجمهورية.

استطاعت اسرائيل ان توصل بشير الجميل الى سدة الرئاسة وتحكمت بالقرار الاول في البلد وقبيل انتخاب بشير كان هناك مفاوضات تجري بينه وبين الاسرائيلي حول توقيع اتفاقية سياسية مع اسرائيل ووقع الاجتماع الشهير في نهاريا في شمال فلسطين بينه وبين الإسرائيليين الذي نتج عنه اول خلاف سياسي بين بشير والاسرائيلي فالبعض يقول انه وافق على الاتفاق والبعض يقول انه رفض وتعتبر هذه القضية من الأمور الغير محسومة في التاريخ اللبناني. لاحقا اغتيل بشير الجميل واغتياله شكل اول ضربة قاسية لليمين اللبناني ثم انتخب اخاه أمين رئيساً للجمهورية ووقع الاتفاق الشهير والمعروف ب:" ١٧ايار" .
  هذا الاتفاق قدم لبنان على طابق من الذهب للإسرائيلي وكان تهديد وجودي للبنان وكيانه وما تبقى من قوى يسارية فيه. هنا بدأ المظهر السياسي في لبنان واضحا لصالح اسرائيل، القرار الاول اي رئاسة الجمهورية لها وما رافق هذا من تغييرات ادارية وعسكرية في الدولة لتتأقلم مع اتفاقية أيار أضف الى ذلك تواجد القوات المتعددة الجنسيات في بر وبحر لبنان لحماية مصالح الحكم ومصالح اسرائيل والذين تعرضوا في خريف ١٩٨٣ بعد توقيع الاتفاقية لتفجيرات أسقطت المئات من الأميركيين والفرنسيين بين قتيل وجريح .وقبل توقيع الاتفاقية كانت ملامح مشروع وطني تظهر وتحمل راية المقاومة لإسرائيل من تلة شلعبون والطيبة الى خلدة الى عملية الاستشهادي احمد قصير وحسن قصير ومجموعة كبيرة من أبناء الإمام الصدر الذين عملوا تحت منظومة تدعى"أمل" بقيادة محمد سعد وخليل جرادي.وبشكل مواز كانت المواجهات البطولية للمقاومة الوطنية اليسارية في بيروت تحت اسم :"جمول" والتي اخرجت اسرائيل من شوارع بيروت والجبل واستطاعت "أمل" إكمال مسيرة التحرير الاول حتى الشريط الحدودي لاحقا.
كان الخروج عسكريا فقط أما سياسيا ف ١٧ أيار كان بارزا ومفاعيله قوية. تبنت سوريا في الأخير خيارا واضحا في لبنان من خلال دعم المقاومة اللبنانية وخصوصا"أمل" وبشخص رئيسها نبيه بري الذي بدأ يذيع صيته في الوسط السياسي.وحصلت مواجهات بين السوري والإسرائيلي في ١٩٨٢ فيما بعد وبين السوريين واليمين وخصوصا في زحلة لكن ملامح وجه لبنان الجديد لم تكن بارزة جيدا بعد. كان القرار السياسي لا يزال لمصلحة اسرائيل.اراد أمين الجميل تدعيم مفاعيل اتفاقية:"١٧ايار" على الارض ووجد ان بيروت الغربية ضد الاتفاقية فبدأ من خلال الجيش اللبناني والقوات اللبنانية حملة مداهمات واعتقالات ومصادرة أسلحة الأحزاب الموجودة في محاولة للقضاء على اي حالة تمرد على الاتفاقية. شعر البيروتيون في تلك الفترة بحالات من الذل والقمع شكلت فيما بعد محرك للانتفاضة.وبدأت معارضة سلمية في بيروت مدعومة من سوريا وعلى راس هذه المعارضة نبيه بري بحركة امل ووليد جنبلاط بالتقدمي الاشتراكي والتي كانت الإنتفاضة بمثابة الشرارة الأولى لإنطلاق مسيرتهما السياسية بجدية وواقعية.
  إلا أن الوجه الإسرائيلي للإنتفاضة لم يكن وحده هو الدافع لتحرك الناس فقد  ظهر بعد اجتماعي للإنتفاضة تمثل بالضيق الشديد الذي مارسه الحكم والخناق المفروض الذي ولد حالة حرمان جامحة وناقمة على الحكم أضف الى السياسة غير العادلة تجاه بيروت الغربية من قبل إدارات الحكم والتي اتبعت سياسة التهميش تجاه ابناء المنطقة فزادت حالات الفقر والحرمان والتهميش، ففقراء بيروت كانوا عماد الانتفاضة وبالأخص أولئك الذين وجدوا في حركة امل ملاذا للمحرومين وصوت بوجه الحكم الظالم .    أضف إلى البعد الإجتماعي بعدا ثقافيا فبيروت تاريخيا معروفة انها قلعة جمال عبد الناصر فهي عربية الهوية والانتماء وروحها المقاومة وبوصلتها القدس فما كانت لتسمح بمرور هكذا اتفاقية حتى أن بعض البيروتيين نزلوا بالسكاكين لمواجهة الحكم. شدة الظلم والقهر خلقت حالات ململة في وسط الحكم ترجم بانشقاق اللواء السادس من الجيش اللبناني والتحاقه بقوات" أمل "وشكل هذا البعد التقني واللوجستي وهو بعد مهم في سير العمليات.
  هذه الأبعاد كانت تتفاعل فيما بينها منتظرة الشرارة الاخيرة التي ولدت الانفجار الكبير. أضف الى ذلك ان هذه الأبعاد المتراكمة منذ بدايات الحرب الأهلية وحتى قبلها"خصوصا الحرمان الشيعي" تفاعلت كلها وإختزلت في منظومة واحدة اسمها حركة امل بشخص نبيه بري الذي أدرك كيف يتفاعل مع هذه الأبعاد ويوظفها في قالب واحد كان اسمه انتفاضة السادس من شباط ١٩٨٤ متعاونا مع القوى البيروتية المحلية والحزب التقدمي الاشتراكي. لذلك أحب البعض إطلاق تسمية" ثورة الشيعة" أو "خروج المارد الشيعي "على الإنتفاضة. حصلت الانتفاضة وهزم الحكم وانهارت اتفاقية ١٧ايار وبدأت ملامح وجه لبنان الجديد لكنه وجه اثبتت التجارب ان الإيجابية الوحيدة فيه هو مقاومة اسرائيل اما ما عداه فليس بأفضل مما كان قبله. الحرمان إستمر والتبعية للخارج زادت ودور الميليشيات في الدولة إتسع وبدأت مرحلة تمهيد لخلق دويلة داخل الدولة الأصلية وبروز ثقافة التخوين والتكفير على المشهد العام وسطوع ظاهرة الفساد والمحاصصة بشكل وقح وتصنيف ثنائي للمواطن: درجة أولى وثانية.   نعم، ربحت سوريا في لبنان، عرفت كيف تلعب على المتناقضات، أدخلت الطوائف بحروب أهلية بنيوية داخلها بعد ان كانت حرب أهلية بينها وانهزمت اسرائيل ثم أطل الايراني وشارك سوريا حصصها في لبنان الى ان استفرد اليوم بلبنان هو والسعودي.
لكن بغض النظر عن ذلك كله كان من النتائج المباشرة للانتفاضة خروج اسرائيل سياسيا من بيروت مركز القرار وبدء الوهن في قلب اليمين والإنهيار لاحقا وإغلاق مكتب التنسيق اللبناني الإسرائيلي وترتيب الوضع الاداري في الدولة بعد ان طال العديد التهميش والطرد وبروز نجمي نبيه بري ووليد جنبلاط فعليا على الساحة السياسية واتساع نفوذ القرار السوري في لبنان. سجل خصوصا لحركة أمل أنها أول تنظيم سياسي عربي يسقط إتفاق إسرائيلي عربي بقوة السلاح وهذه حقيقة راسخة ولها مدلولات وووحدها إسرائيل تعرف ماذا حل بها جراء إنهيار هذه الإتفاقية. فالإنتفاضة كانت مقدمة لتنظيف بيئة الوطن السياسية والإجتماعية لبناء بيئة حاضنة قوية للمقاومة. فلولا إنتفاضة 6 شباط 1984 ما كنا سمعنا ب تحرير 25 أيار 2000.   تلت الانتفاضة سنوات شهدت معارك وانشقاقات داخلية ومؤتمرات سلام وبروز قوى جديدة حتى جاء مؤتمر الطائف وأنهى الحرب. لم تحقق هذه الانتفاضة حالة وطنية خالصة في لبنان فممنوع ذلك،  أصبح نبيه بري رقما صعبا في المعادلة ووليد جنبلاط بيضة قبان النظام.استفردت سوريا بالقرار اللبناني واستفردت ايران بقرار المقاومة واستفردت السعودية بالقرار الاقتصادي.ولم يستفرد اي لبناني بقرار بلده.