أم كلثوم بلا شك هي ملكة الثقافة المصرية، ويراها الملايين في أنحاء العالم رمزاً للثقافتين المصرية والعربية الحديثتين، "صوت الأمة"، سمتها الباحثة الأمريكية فرجينيا دنيالسون. توّجها محبوها بألقاب مثل "كوكب الشرق"، و"الست"، و"الهرم الرابع"، وسمّى الأباء بناتهم على اسمها، وفي عدادهم الأديب نجيب محفوظ وزوجته.

وفي رحلاتها إلى العالم العربي استقبلها رؤساء وملوك في المطارات، وكان التقدير الذي حظيت به تقديراً لزعيمة، وصورتها، التي أصبحت أيقونة ثقافية، طبعت على طوابع رسمية للدولة وعلى تي-شيرتات، وملفات، وأقراط، وأكسسوارات أخرى. كيف حدث أن امرأة بالتحديد هي من وصلت لمنزلة كمنزلة أم كلثوم في مجتمع أبوي مثل المجتمع المصري؟ ليست امرأة فقط، وإنما مغنية أيضاً، بينما الغناء يُعدّ مهنة محتقرة في المجتمع التقليدي. بشكل خاص عندما يكون الكلام عن النساء، وصوتهن بالطبع عورة.

أكثر من هذا، لماذا هي تحديداً؟ كيف أنه من بين جميع المغنيات اللاتي عشن في عصرها، ولم يكنّ سيئات .   حصلت أم كلثوم بالتحديد على منزلتها الخاصة في مصر وفي العالم العربي كله؟ ولدت أم كلثوم، واسمها الشخصي فاطمة إبراهيم البلتاجي، في قرية طماي الزهايرة في دلتا النيل، في وقت يراوح بين 1898-1904 (لم يكن هناك وقتذاك تسجيل دقيق للمواليد). كانت عائلتها فقيرة وأبوها كان إمام المسجد المحلي. وهي تبلغ خمس سنوات أرسلت مع أخيها خالد لتعلم القرآن في الكُتّاب ثم في المدرسة بالقرية المجاورة.

لم يكن لدى الأب ما يكفي من المال للإنفاق على استمرار تعليم الطفلين، وبعد سنوات معدودة أخرج البنت من المدرسة وأبقى على الابن، ولكن كان هناك ما يكفي في هذه السنوات كي تحوز أم كلثوم الموهبة التي ستستخدمها على مدى أكثر من خمسة عقود من المسيرة الموسيقية: في التقاليد الموسيقية العربية معروف أن من يريد إتقان نطق اللغة، نطق الكلمات ومعانيها والغناء بالصورة الفضلى، عليه تعلم القرآن، وبدقة أكبر "تجويد القرآن"، أي القراءة المنغمة.

فالكتاب المقدس تنبغي قراءته بصوت عال، والقراءة يجب أن تكون دقيقة، من خلال الاهتمام بالنطق الصحيح للحركات والأصوات المحددة، وببناء الجملة، بوقفاته وبالمواضع التي ينبغي أخذ نَفَس فيها بدون الإضرار بمعنى النص. بعد ذاك ستحكي أم كلثوم في حوار أنها في السنوات الأولى قلدت أباها وأخاها "كالببغاء"، بدون فهم معنى الكلام الذي كانت تقرأه. ولكن، منذ طفولتها لاحظ أبوها موهبتين حبيت بهما: الأولى هي القدرة على الحفظ والاستظهار شفوياً، فقد كانت تبهر الجميع أكثر مما كان يفعل أخوها خالد، والثاني، والأهم، صوتها الجميل والخاص. كدخل إضافي، اعتاد الأب الظهور مع ابنه وأقرباء آخرين في قرى الدلتا منشدين قصائد دينية في مناسبات عائلية وفي الأعياد. في إحدى هذه المناسبات، بينما كان عليهم الظهور في بيت عمدة القرية، مرض أخو أم كلثوم، وقرر الأب إشراك ابنته في الحفل وهي تلبس ملابس صبي.

صحيح أنه في هذه السنوات كانت هناك نساء في مصر يعرضن ويغنين أغاني دينية، ولكنهن اعتدن الظهور أمام النساء فقط، أو أمام الرجال وهن منقبات أو جالسات خلف ستار.

الحفل الأول الذي أحيته أم كلثوم في بيت عمدة القرية، وهي لم تبلغ بعد العشر سنوات، حاز نجاحاً كبيراً. كانت الطفلة محط اهتمام قرى المنطقة ومدينة السنبلاوين، والمزيد من الناس أرادوا من أبيها دعوتها للعروض، ومن بينهم أيضاً كان أبناء النخبة المدينية.

في بداية العشرينيات، بعد أن تعرفت في إحدى حفلاتها إلى المغني المحبوب لديها، محمد أبو العلا، والملحن الشهير زكريا أحمد، بدأت أم كلثوم إحياء عروض في القاهرة أيضاً. علّمها أبو العلا الغناء العربي الكلاسيكي القديم، من خلال التأكيد على معاني النص، ثم علمها أيضاً العزف على العود. بعدها دعا زكريا أحمد أم كلثوم وعائلتها للانتقال والسكنى في القاهرة، بهدف تعريفها إلى خيرة المبدعين في ذاك الوقت ولربطها بصناعة الترفيه التجارية. الأب الذي خاف على السمعة الطيبة لابنته لم يسارع إلى الموافقة، ولكن في عام 1923 رضي وانتقلت العائلة كلها للقاهرة. أم كلثوم، خلافاً لرغبة أبناء أسرتها، استجابت لطلب الجمهور. ببطء بدأت في تغيير أسلوب أغانيها، وانتقلت من القصائد الدينية وقصائد الحب للنبي إلى أغان أكثر خفة، أغاني الحب المعروفة بالطقاطيق والمكتوبة بالعامية وليس بالفصحى.

في الوقت نفسه، فقد حسّن دخولها لدوائر النخبة  أداءها جداً بل أدى لتغيير في طريقة لبسها. خلعت غطاء الرأس التقليدي، وبدلت ملابسها القروية بفساتين سهرة بطراز أكثر أوروبية، وفي النهاية فصلت أباها وأخاها وسائر الرجال المرافقين واستأجرت لنفسها تختاً (تشكيلة أدوات موسيقية تتضمن غالباً أربعة أو خمسة عازفين للعود، الناي، والقانون، والكمان، والدف) بدلاً من المصاحبة الصوتية. بهذا نصبت نفسها مغنية منفذة تصارع من أجل مكانها في صناعة الترفيه التجارية وتطمح للمزيد من الشعبية. ظاهرياً، يبدو كما لو أن أم كلثوم قد استجابت للإملاءات الذكورية التي أدارت صناعة الترفيه الرأسمالية. ولكن، في مقابل موهبتها الموسيقية ظهرت أيضاً موهبة المغنية الشابة كسيدة أعمال ذكية، تريد السيطرة على جميع تفاصيل مسيرتها، من الصغير للكبير.

من ناحية، غيرت أسلوب لبسها إلى ما هو أكثر غربية وحداثة، ومن ناحية ثانية، حافظت على ملابس محتشمة تستجيب للشفرات الثقافية والمحلية. لم تظهر البتة بشعر منسدل ولم تلبس ملابس مكشوفة كما اعتادت مغنيات معاصرات أخريات ذلك، مثل فتحية أحمد أو منيرة المهدية. بعدها سيكون هناك أيضاً من يقولون إنه حتى المنديل الذي اعتادت الإمساك به في عروضها وأصبح رمزها التجاري هو علامة على أنها أزاحت غطاء الرأس، ولكنها لم تتخلّ عنه فعلاً. أكثر من هذا، فهي فصلت بالفعل أبناء عائلتها الذين دافعوا عنها من الرجال في عروضها، ولكنها استأجرت خدمات مجموعة من الداعمين، الذين رافقوها في جميع العروض، جلسوا بين الجمهور، وعلموا المشاهدين كيفية التصرف: متى يُسمع بالتهليل والثناء على المغنية، ومتى ينبغي الحفاظ على الهدوء، وبالطبع، أوضحوا أنه ممنوع الوصول إليها، ولا، حاشا لله، محاولة مغازلتها.

بهذا، لم تدافع أم كلثوم عن نفسها فقط، إنما بالتدريج أدخلت شفرات مختلفة للسلوكيات في عروض المغنيات، وتمكنت من تغيير علاقة المجتمع بالمغنيات وبدرجة ما بمهنة الغناء عموماً، بل مهدت الطريق لدخول النساء في العروض كقطاع شرعي من الجمهور. في عروضها من الستينيات يمكننا أن نرى بين الجمهور رجالاً ونساء، متدينين وعلمانيين، قرويين ومدينيين. هذا وأكثر. مع استئجار التخت، تحولت أم كلثوم إلى واحدة من المغنيات المطلوبات، وتعاملت مع نفسها على هذا الأساس. بدأت في طلب مبالغ كبيرة من أجل عروضها، وعندما لم تكن ترغب في العرض بمكان بعينه لم تكن ترفض البتة وإنما ببساطة كانت تطلب مبلغاً كبيراً غير متوقع. بهذا جعلت من نفسها المغنية الأغلى في العالم العربي، ثم بسرعة المغنية الأكثر تقديراً أيضاً. في بداية الثلاثينيات أصبحت معروفة، ليس في مصر وحدها وإنما خارجها أيضاً وقدمت حفلات في دمشق، وبيروت، وحيفا، ويافا، والقدس.

يبدو أن التوقيت الذي اجتاحت فيه أم كلثوم الوعي كان مثالياً. أسهمت في هذا مسيرتان مرت بهما مصر في هذه السنوات، الأولى تكنولوجية والثانية تاريخية. من الناحية التكنولوجية، فقد بدأت في الظهور من نهاية القرن التاسع عشر وسائل توزيع مريحة لم تكن موجودة من قبل في العالم العربي: بدايةً من الصحف، التي أتاحت نشر الأخبار عن فنان بعينه، ومنشورات بخصوص عروضه وما إلى ذلك، وبعدها بدأت السينما التي مكنت المغنين والمغنيات من التمثيل في الأفلام وجعلتهم أكثر قرباً للجماهير غير القادرة على رؤية عروضهم، وكذلك الجرامافون الذي أتاح تسجيل أغانٍ واسكتشات وإذاعتها في المقاهي، والراديو وما إلى ذلك. كل هذا نشر صيت أم كلثوم في أنحاء العالم العربي. اعتادت الإذاعة المصرية أيضاً تقوية بثها عندما كانت تذيع عروضها الحية، مما سمح بسماعها من المغرب في الغرب حتى العراق في الشرق، من اليمن في الجنوب وحتى سوريا في الشمال.

بعد سنوات معدودة من بدء مسيرتها الموسيقية أصبحت أم كلثوم المغنية الأكثر شهرة والمطلوبة أكثر في الحيز العربي. من الناحية الموسيقية، وسعت أم كلثوم من التخت وجعلته جوقة كبيرة على الطراز الغربي، ضمت بضع كمنجات، وتشيلو، وكونترباص، وأكورديون... عزف هذه الآلات المقدمات والقطع الانتقالية في أغانيها الطويلة كأي جوقة غربية، ولكن من اللحظة التي تبدأ فيها الغناء، تنسحب كل الآلات للخلف، والآلات التي ترافقها تصبح ميلودية وتتكون من أدوات عزف قليلة، كما هو معتاد في التقاليد الموسيقية العربية. مغنون آخرون تبنوا هذا أيضاً. كان هذا بمثابة تجديد في الموسيقى العربية التي كانت شائعة حتى وقتذاك، ولكن أم كلثوم عرضته كمنتج عربي أو مصري أصيل، ومع السنوات تحول لما يعدّ اليوم موسيقى عربية كلاسيكية. بعدها، عندما ظهرت في باريس عام 1967، سئلت في حوار للتليفزيون المصري هل تريد أن تتأثر بلدها، مصر، بشيء ما من أوروبا أو من الثقافة في باريس، فأجابت بابتسامة: "لا أحب أن تقلد هذه البلد بلداً أخرى. لدينا تقاليدنا ونحن فخورون بها جداً". وبرزت أيضاً انتقادات لأم كلثوم وعروضها الخاصة. كان هناك من انتقدوها بسبب علاقاتها بالنخب، وبعضهم بخصوص طابعها الجامد، وكان هناك أيضاً من انزعجوا بالانشغال الكبير الذي تبديه الصحافة المصرية بعروضها، وبأغانيها  وبغرفة ملابسها.

قرب نهاية مسيرتها كان كثير من أبناء الجيل الشاب، برغم أنهم قدروا صوتها جداً وموهبتها الموسيقية، ينزعجون من أغانيها الطويلة ويشكون من سيطرتها على ساعات البث في الراديو ومنعها الفنانين الآخرين من حيازة المجد. وفق كثيرين فقد أثارت عروضها فخراً وطنياً وثقافياً كان بمثابة إلهاء عن مشاكل وأزمات المجتمع المصري. كان هناك كذلك من علقوا هزيمة مصر في حرب 1967 بكون "صوتها يسكت الناس بدلاً من إيقاظهم". ولكن بعد الهزيمة في الحرب خرجت أم كلثوم في رحلة عروض في أنحاء العالم العربي، وخارجه أيضاً للمرة الأولى، في قاعة الأولمبياد في باريس. وساهمت بالأرباح الناتجة عن العشرات من عروضها في إعادة بناء الجيش المصري. هكذا لم تسهم فقط إسهاماً مالياً، وإنما عبرت تعبيراً حقيقياً عن فكرة الوحدة العربية، التي فشل ناصر في تحقيقها. أصاب موت أم كلثوم في عام 1975 مصر والعالم العربي كله بصدمة. التقديرات في موضوع عدد المشاركين في جنازتها تراوح ما بين مليونين أو أربعة ملايين شخص. على أية حال يعتقد الكثيرون أن هذه الجنازة كانت أكبر من جنازة ناصر، وهذا مشكوك فيه، ولكن يبدو أن هذه هي طريقة الجماهير للقول إن أم كلثوم حظيت بشعبية أكبر من شعبية الزعيم القومي، لأنها هي بالتحديد من حققت آمالهم.

كانت أم كلثوم رمزاً وهي لا تزال حية، ولكن لا شك أنها منذ موتها تحولت أيقونة ثقافية، بشكل خاص في مصر ولكن أيضاً في العالم كله. بعد موتها بأربعين سنة، لا تزال أغانيها تتردد يومياً وفي أوقات محددة في محطات إذاعية مختلفة في العالم العربي وفي إسرائيل أيضاً. مغنون ومغنيات يجددون أغانيها، سواء في العالم العربي أو في خارجه، من بينهم مغنية الفلامنكو من ثنائي [المغنيين الأسبانيين] Lole & Manuel، المغنية الفرنسية المغربية Sapho، المغنية الإسرائلية Zehava Ben، وآخرون كثيرون. حتى المغنية التونسية البلجيكية غالية بن علي أصدرت في 2010 ألبوماً تضمّن أغاني مجددة لأم كلثوم. في جميع برامج الواقع تقريباً هناك من يقدم أغنية لها. الفنانون التشكيليون يواصلون رسمها، أو صنع أعمال بإلهام منها، وصورتها أيقونة يمكن العثور عليها ليس فقط في المتاحف وإنما أيضاً على الأكواب، والقمصان، والأقراط وما إلى ذلك. يوم الثلاثاء هذا، 3 فبراير، سيشير العالم العربي لاكتمال أربعين عاماً على موت أم كلثوم. في مصر سيشار إلى اليوم عبر سلسلة من العروض، بعضها في بيت الأوبرا المصرية، وهو المكان الذي لا يسمح بالدخول إليه إلا بارتداء ملابس السهرة، وأخرى في بيت السناري في الحي الشعبي القاهري، السيدة زينب. في هذه الأربعين سنة، لم تنقص شعبية أم كلثوم، إنما زادت وحظيت بالاعتراف بين جماهير مختلفة في أنحاء العالم. من حين لآخر تحظى مغنية شابة جديدة بلقب "أم كلثوم الجديدة"، ولكن اللقب لا يصمد إلا فترة قصيرة وفي الغالب يقضي على مسيرة هذه المغنية. لأربعين عاماً يبحثون عمن تشبهها، ولم يجدوا.