قلبَت الترشيحات الرئاسية الموازين الداخلية رأساً على عقب، وكشفَت بعض المستور الذي رافقَ المفاوضات بين مختلف الأحزاب والقوى، بعدما كانت تدور رحاها طوال الأشهر الماضية في الغرَف المغلقة وبعيداً من الإعلام. ومع خروج ترشيح الرئيس سعد الحريري النائبَ سليمان فرنجيّة إلى العلن، وبَعده ترشيح «القوّات اللبنانية» العماد ميشال عون، أصبح كلّ شيء مباحاً، وبالتالي بات من المهمّ شرح الخبايا للرأي العام الذي يراقب من دون أن يفهم خلفيّة هذا الضجيج والخليط السياسي. على رغم أنّ «القوات اللبنانيّة» قد رشَّحت الدكتور سمير جعجع إلى رئاسة الجمهوريّة بعدما حصَرت الاجتماعات المنعقدة في بكركي الترشيحات بالزعماء الموارنة الأربعة، لم تتوقّف الاتّصالات بين مختلف الأفرقاء، وتواصَلت «القوات» كفريق مسيحي أساسي مع الجميع إلى أن وصلت في نهاية المطاف إلى ترشيح عون، في مشهد وصفَه البعض بأنّه «قلبٌ للطاولة فوقَ رؤوس الجميع»، لكنّ وجهة النظر القواتيّة لهذه الخطوة مغايرة.

ومِن هذا المنطلق كان لا بدّ من الإطلاع عن كثَب على حركة الحزب الأخيرة، والتبدّلات السياسيّة التي طرأت، خصوصاً بعد إعلان فرنجيّة أنّ «القوّات» فاوضَته على الرئاسة مقابلَ حصولها على وزارة الداخليّة، والتعهّد بعدمِ إيصال العميد شامل روكز إلى قيادة الجيش، وتوسّطه لفتحِ حوار مع «حزب الله» في مقابل تأييد رئيس تيار «المردة» رئيساً.

إختارَت «القوات اللبنانية» النائب أنطوان زهرا الذي كان يوصَف بأنّه «الأكثر تطرّفاً في مواجهة «التيار الوطني الحرّ» وفريق «8 آذار»»، لشرحِ موقف الحزب من المفاوضات المتعلقة بترشيح فرنجية، خصوصاً أنه شاركَ فيها، إضافة إلى مجمل التطوّرات السياسية والرئاسية.

في جلسةٍ إعلامية غلبَ عليها المزاحُ، بعكس الجوّ السياسي السائد في البلد، نفى زهرا ما قاله فرنجيّة عن المفاوضات، موضحاً أنّ الحديث في ملفّ الرئاسة كان طبيعياً مع «المردة» لأنّنا أوّلاً اتّفقنا منذ مدّة على طيّ صفحة الخلاف الدموي السابق، وثانياً لأنّ فرنجيّة مرشّح طبيعي من ضمن الأقطاب الموارنة الأربعة، وعندما رأينا أنّ بإمكانه شغلَ موقع الرئاسة الأولى استكملنا الحوار، لكنّنا لم نطالب بوزارة الداخلية، بل قلنا إنّ هذه الوزارة مهمّة للمسيحيّين لأنّ لها سلطة على البلديات والأجهزة الأمنية، ونحن نحتاج إلى استرجاع دورِنا وموقعنا في الدولة، مع عِلمنا أنّنا خسرنا وزارةَ المال والطرَفُ الشيعي سيتمسّك بها لأنّ توقيعَها مهمّ، لذلك طالبنا أن تكون وزارة الداخلية ضمن حصّة مسيحيّي «14 آذار».

ويضيف زهرا: «في ملف قيادة الجيش، لم نطالب «المردة» بمنعِ وصول روكز، فهذا أمرٌ لا نقدِم عليه مع خصمنا، وعندما طرِح هذا الموضوع علينا سابقاً، قلنا إنّنا لن نتدخَّل لأنّنا لسنا مشاركين في الحكومة ولسنا في وارِد فتحِ معركة مع أحد، ولو سَلّمنا جدلاً أنّنا عارضنا وصولَ روكز فهذا أمرٌ طبيعيّ في تلك المرحلة لأنّه محسوب على عون الذي كان خصمنا، لكنّني أعيد وأكرّر أنّنا لم نطرح موضوع روكز في حوارِنا مع «المردة».

ويَلفت زهرا إلى أنّ «قيادة الجيش تَهمّنا، ولم يكن مِن العبث إعطاء وزارتَي الداخلية والدفاع بعد «اتّفاق الدوحة» إلى رئيس الجمهورية، على اعتبار أنّه القائد الأعلى للقوات المسلّحة، لكنّ إعلانَ فرنجيّة أنّنا رفَضنا روكز وتحويرَ الحوار هدفُه خلقُ شرخٍ مع «التيار الوطني الحرّ» بَعد التفاهم الأخير بينَنا».

أمّا النقطة الثالثة التي تَعتبر «القوّات» أنّ فرنجيّة حوَّرها، فهي تتعلّق بالحوار مع «حزب الله»، حيث يؤكّد زهرا أنّ «القوات» لم تطلب منه هذا الأمر، على اعتبار أنّ المنطقة ذاهبة نحو انتصار محور إيران».

ويشير الى أنّ «هذا الكلام غير صحيح لأنّنا منذ الدخول الروسي الى سوريا أيقنَّا أنّ الدور الإيراني انتهى وبدأ دور الروس، وعلمنا أنّ إيران سحبَت معظم مقاتليها لتنشرَ مكانهم مرتزقة أفغاناً ومن دوَل أخرى، فيما يَنشر «حزب الله» أكثرَ من 10 آلاف مقاتل من ريف حلب الى إدلب وحمص ودمشق وقد استنزَف قواه ولم يعُد في موقع قوّة كما يقول، وبالتالي لا نُقاتل من أجل الحوار معه»، عازياً عدمَ حماسة الحزب للحوار مع «القوات»، إلى أنّه «يعرف أنّ جعجع لا يساوم، ويَعمل على الورقة والقلم، وموقفُنا إمّا نعم وإمّا لا».

لم تمرّ الجلسة من دون أن يُمرّر زهرا رسائلَ في كلّ الاتّجاهات، إذ يوضح: «أنا قلت للحكيم إنّني راهب لـ«14 آذار» ونحن متمسّكون بمشروع الدولة، لكنّ ذلك لا يَمنع وقوع بعض الإختلافات مع الحلفاء، فحزبُنا لم يُعمّم على قياداته عدمَ اللقاء مع قيادات تيار «المستقبل» وحتى الساعة لا نَعلم طبيعة الاحتفال في ذكرى 14 شباط، لكنّ جعجع في المقابل أعلن أنّه لم يتّصل بالحريري منذ مدّة، وكلّ ما قيلَ عن ذهابنا الى باريس أو السعودية لرؤية الحريري غيرُ صحيح لأنّنا لم نقترف ذنباً ولم نقُم بعمل غير مبرّر في وقتٍ ارتكب غيرُنا أخطاء عدّة».

أول من طرح عون

في السابق ومع تقدّم المفاوضات بين الحريري وعون، عملَ جعجع على عرقلتِها وذهب الى باريس للقاء الحريري، وعندما رشَّح الحريري فرنجيّة عارضَ جعجع هذه الخطوة على رغم الحوار بين «المردة» و»القوات»، لكنَّ جعجع عاد ورشَّح عون. وعلى هذه النقطة يوضح زهرا: «بغَضّ النظر عن الأسماء فهذه ليست مشكلتنا، بل المشكلة في أن يأخذ الحريري القرار منفرداً ويرشّح مَن يشاء من دون عِلمنا.

فقد ولّى منطق الاستفراد والاستئثار، وهذا الأمر ليس موجّهاً ضدّ الحريري، بل يشمل أيّ حزب، أكان مسيحياً أو غير مسيحي في حال حاولَ الاستئثار بالرئاسة أو بأيّ قرار أو موقع، أمّا ترشيحنا لعون فلم يكن ردّة فعل على ترشيح فرنجية بل أتى بَعد «إعلان النوايا» ورؤيتنا أنّه يمكننا الاتفاق معه، خصوصاً أنّه الأقرب إلى خياراتنا بعد التفاهم».

ولفت زهرا الى أنّه كان أوّل من طرح فكرة ترشيح عون عندما رأى أنّ لا حظوظ لوصول مرشّح من «14 آذار» وأن المعركة الرئاسية حُسمت لمصلحة مرشّح من «8 آذار».

السعودية

لا ينفي زهرا وجود بعض الانزعاج السعودي من ترشيح عون، لكنّه يؤكّد في المقابل أنّ العلاقات مع السعودية استراتيجية ومستمرّة، والبنود العشرة التي أعلِنت لم تُزعجهم، وبالتالي فإنّ علاقتنا مع المملكة لا تمرّ بأحد، وقد عملتُ شخصياً عليها منذ العام 2007، والرياض تريد الحفاظ على الدور المسيحي، ومخطئ من يراهن على أنّ العلاقة قد تنقطع أو تتأثّر بالمتغيّرات».

الأصلي و«التايواني»

تُراهن «القوّات» على التقارب مع عون وردمِ الهوّة، خصوصاً بعد فترة نزاع طويلة أثّرَت على المسيحيين، ومِن هذا المنطلق يَشرح زهرا قول جعجع إنّ عون «8 آذار» تايواني بينما فرنجية أصلي: «هذا مثلٌ راجَ عند مشايخ آل الخازن في كسروان واعتقَدنا أنّ الجميع يَعرفه، وقد حصَلت ردّة فِعل، لكنّ الحكيم قصَد أنّ فرنجية أكثرُ التصاقاً بمشروع «8 آذار» مِن عون».

«الكتائب» والمستقلّون

بعد موجة الردود على مصالحة معراب، خرجَ رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل بموقف سلبي من ترشيح عون، وفي هذا الإطار يؤكّد زهرا أنّ الكتائب كانوا دائماً في جوّ المصالحة والاتّصالات، وقد طمأنّاهم دائماً بأنّهم إلى جانبنا في أيّ خطوة، لكنّ موقف سامي مستغرَب، ونستنتج بأنّهم كانوا يريدون ضمانَ حصّة لهم، وهذا لم نصل إليه في الحديث مع «التيار»، وبالتالي لربّما اكتشف الكتائب أنّهم إذا ذهبوا مع فرنجية سيُحقّقون مكاسبَ أكثر، لكنّنا لا نبحث عن تقاسم حِصص ومكاسب انتخابية بل نسعى إلى رؤية مسيحية شاملة».

أمّا بالنسبة إلى المستقلين، فيشدّد زهرا على أنّ جعجع وبَعد الحديث عن الميثاقية وإمكان تأمينها من النواب المستقلين، «فقد كان له ردّ فعلٍ قويّ، وصَل بعضُه إلى مسامعهم، لذلك تكتّلوا وحاوَلوا الحفاظ على مواقعهم، لكنّنا لا نريد إلغاءَ أحد ولا نؤمِن بالأرقام الشمولية أو نحاول تقليدَ الثنائية الشيعية».

قانون الانتخاب

لا يُنكر زهرا أهمّية قانون الانتخاب بالنسبة إلى المسيحيين، مع معرفته أنّه مِن المبكر جداً الحديث عن التحالفات الانتخابية، ويكشف أنّ «جعجع أطلعَ كوادر حزبه على إمكان التحالف مع «التيار الوطني الحر» في الانتخابات البلدية التي تشكّل بالنسبة إلينا بروفا لورقة «إعلان النوايا»، لكنّنا لا نُريد إلغاءَ أحد لأنّنا نعرف أنّ الجميع سيتكتّل ضدّنا، وبالتالي نحن نركّز اليوم على قانون الانتخاب النيابي المختلط، لأنّنا نريد مراعاة هواجس الجميع ولا نريد تصحيحَ التمثيل المسيحي لخلقِ مشكلة مع الدروز لأنّهم أقلّية في الجبل».

على رغم أنَّ الجميع وضعوا أوراقَهم على الطاولة وباتت المواقف معروفة، يَستبعد زهرا عودة العلاقة مع «التيار الوطني الحر» إلى التشنّج السابق، لكنّه لا يتوقع خوضَ الإنتخابات النيابية متحالفاً مع الوزير جبران باسيل في البترون على قاعدة أنّه يجب ترشيح أحد مِن الجرد.

ويؤكّد في الخلاصة أنّ الانتخابات الرئاسية ما زالت بعيدة بسبب رفضِ «حزب الله» إجراءَها، فيما يَجزم أنّ «الطائف» سيَبقى ورقة المسيحيين الدائمة في حال طرح احتمال تغيير النظام، لأنّ هذا الاتّفاق سيشكّل الحلّ الذي سترتكز عليه دوَل المنطقة للخروج من حروبها وأزماتها.