في 2005، وبينما الانقسام السياسيّ على أشدّه بين 8 و14 آذار، ظهر على السطح آخر ما كان يمكن توقّعه. فقد نشأ تحالف انتخابيّ بين "حركة أمل" و"حزب الله" و"تيّار المستقبل" و"الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ".


وعلى رغم اتّفاقٍ جانبيّ مع "القوّات اللبنانيّة" قضى بانتخاب مرشّحها إدمون نعيم على لائحة "التحالف الرباعيّ" في المتن الجنوبيّ، لم يكن صعباً وصف هذا التحالف بأنّه "ضدّ المسيحيّين".


والحال أنّ ميشال عون الذي عزف يومذاك موجة الخوف والتهميش المسيحيّين، حاصداً نتائج انتخابيّة باهرة، نجح في التقاط المعنى العميق لـ"التحالف الرباعيّ" كما هندسه وليد جنبلاط: إنّه الإبقاء على تركة نظام الوصاية السوريّة من دون أجهزة الأمن السوريّة وقوّاتها العسكريّة. هكذا، وكما أبقي على مقاومة "حزب الله"، أبقي على التهميش المسيحيّ أيضاً.


وبموجب المنطق نفسه، راهن عون على التحالف مع التركة الأخرى للوصاية، أي حزب الله، ومن ثمّ سوريّا "بعدما صارت خارج حدودنا"، كي يصل إلى ما يمكن الوصول إليه من مبتغياته.


ووسط انعدام كامل في المبدئيّات على الجانبين، تغيّرت أمور كثيرة في هذه الغضون. فقد ضُربت الثورة السوريّة، وحلّت "مكافحة الإرهاب" محلّ سائر العناوين المنافسة، وطغى همّ الأقلّيّات الذي رفعته "داعش" إلى مصاف أوّل، وضعف الحلف العربيّ المناهض لبشّار الأسد فيما انكفأ الحلف الدوليّ المناهض له أمام التقدّم الروسيّ.


وفي موازاة ذلك، كان سمير جعجع يعاني تخلّياً بعد آخر من سعد الحريري، الأمر الذي بلغ ذروته في ترشيحه سليمان فرنجيّة لرئاسة الجمهوريّة. وغنيّ عن القول إنّ آخر ما يستسيغه جعجع هو رؤية فرنجيّة في قصر بعبدا. لقد كان ذلك بمثابة مسمار أخير في نعش 14 آذار.


ولمّا كانت تلك التحوّلات تستنزف جعجع وتضعه أكثر فأكثر في مواجهة المزاج المسيحيّ الغالب، بدا التبادل بينه وبين عون مُقنعاً وعادلاً أكثر كثيراً: فهو يعطيه احتمال بلوغ الرئاسة، فإذا لم يتحقّق هذا الاحتمال أعطاه تمثيل التطابق بين الشرعيّة المسيحيّة والشرعيّة السياسيّة الوطنيّة، وتالياً تكريس المظلوميّة المسيحيّة مجسّداً به.


أمّا عون فيعطي جعجع احتمال وراثة الزعامة المسيحيّة الأولى وطنيّاً، والتصالح مع المزاج المسيحيّ الأكثريّ، والمقبوليّة التي تمحضها البيئة العونيّة الكارهة للميليشيات ومواضيها.


وفي معزل عن التفاصيل الصغرى، ينتج النظام الطائفيّ بتحالفاته الراهنة الحجّة الطائفيّة التالية: ما دام السنّة والشيعة والدروز موحّدين حيال المفاصل والمنعطفات الأساسيّة، فلماذا لا يكون المسيحيّون كذلك؟ وهي حجّة لا يمكن إلا قبولها من زاوية هذا النظام وتراكيبه وأحلافه، بدليل الحرج الذي ينتاب الأقطاب المسلمين حيال ترشيح جعجع لعون.


لكنّ ما يُخشى هو أن يتأدّى عن الردّ المتأخّر على "التحالف الرباعيّ" بتحالف ثنائيّ هزّةٌ لا يحتملها الوضع اللبنانيّ البالغ الهشاشة.


صحيح أنّ جعجع حاول، في مؤتمره لترشيح عون، أن يُلزمه ببعض المواقف، كاتّفاق الطائف ووضع الحدود والعلاقات الخارجيّة المتوازنة، لكنْ هل من اليسير إلزام عون، خصوصاً في ظلّ استمرار "التفاهم" بينه وبين "حزب الله"؟


وفي المقابل، إذا صحّ أنّ خطوة ترشيح عون هدفها التخلّص من التهميش المسيحيّ، مروراً بالصدام مع "حزب الله" الذي تذهب أولويّته الفعليّة إلى إدامة الشغور الرئاسيّ، أفلا يُخشى من وضعنا أمام استقطاب بشع: فإمّا الإصرار (الإسلاميّ) على هذا التهميش بالاستناد إلى أعداد النوّاب الذين يرفضون تأييد "مرشّح الأكثريّة المسيحيّة"، وإمّا الإصرار على استعادة الصلاحيّات الرئاسيّة (المسيحيّة) العزيزة على قلب عون، كما كانت عليه قبل 1975، واعتبار أنّ العقود الأربعة المنصرمة، بتحوّلاتها الديموغرافيّة الكبرى، مجرّد غلطة ارتكبها التاريخ؟

 

ناو