هل ما زال بإمكاننا فعلاً الاحتفال بذكرى الثورات كحدث "مؤسس" لمرحلة؟ المرحلة التي يعيشها اليوم توانسة ومصريون وليبيون ويمنيون وسوريون، كل بطريقته وبحسب ما أفرزه مجتمعه ونظامه السياسي؟
ربما تكون الإجابة الفورية: نعم. وذلك على اعتبار أن الحدث العربي الطاغي اليوم (الحروب الأهلية، الصراعات الإقليمية، بعض الإنجازات الحقوقية والدستورية، إعادة الإنتاج - الرثّ في الغالب – للأنظمة السابقة) هو حدث يرتكز إلى نقطة تحوّل أرستها ثورات 2011، ولو أنه ربما صحّت فيها تسمية "ثورات" في ذلك العام وحده أو ما يليه بقليل. 

لكن شيئاً من التفكّر قد يدفع إلى التمهل في الإجابة هذه. 

فإذا كانت ذكرى "الربيع العربي"، نقطة فصل أو تحديد، نقطة انطلاق ثمة دوماً حاجة إليها، من أجل دراسة أنفسنا وأنظمتنا ومجتمعاتنا بنَفَس نقدي وتحليلي يفضي إلى سياسات أفضل، أو حتى مجرد فهم أعمق لواقعنا... فإن ربيع 2011 لم يكن بالضبط بداية "أصيلة". بمعنى أنه لم يكن "فجائياً" بالحد الذي يقدّم به. ولا كان مبتوراً عن سنوات/عقود سبقته. ولا هو – كما أثبتت التجارب والنتائج لاحقاً – ذاك الحدث السحريّ الذي لم يُستكمل سحره. فالطوائف كانت طوائف قبله، وكذلك القبائل والإثنيات. كانت تتصارع بصمت. وإن لم تتصارع، فلأن جَزمة قمعية كانت تطمسها، وليس لأنها كانت في وئام أفسدته الثورات و"طيش شبابها". 

والأمر عينه ينطبق على علاقة الجماعات "الأهلية"، بالسُلطة والعسكر والأجهزة الأمنية والقضائية، وعلى "النخب" العلمية والثقافية والإعلامية، بل والقوى الإقليمية والدولية وصنّاع القرار في الداخل والخارج... وإن اختلفت أشكال تلك العلاقة من تونس إلى سوريا أو اليمن وغيرها. وبذلك، فإن الربيع العربي ما عاد ليُرى كلحظة "خلق"، يبدأ منها التفكير، بل اللحظة الحتمية التي يُستعان بموعدها كمناسبة للتفكير في ما لم نكن لنفكّر به (أو نجرؤ على التفكير به) بصوت عالٍ، في الشارع وساحاته ومقاهيه، وصالات السينما والغاليري، وصولاً إلى قاعات الجامعات والمدارس والملاعب الرياضية. 

من زاوية تلك الإشكاليات والالتباسات، وغيرها، قد يُرى مؤتمر "خمس سنوات على الثورات العربية: عسر التحوّل الديموقراطي ومآلاته"، المنظّم بالتعاون بين "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" و"معهد عصام فارس للسياسات العامة والعلاقات الدولية"، من 21 إلى 23 كانون الثاني/يناير الجاري، في الجامعة الأميركية في بيروت (هنا البرنامج المفصل). 

وخلال حوار "المدن" مع مدير "معهد عصام فارس"، الدكتور طارق متري، يعود السؤال المركزي حول ما إذا كان بإمكاننا فعلاً الاحتفال بذكرى الثورات كحدث "مؤسس" لمرحلة؟ ثم، ما إذا كانت الدول المختلفة ستحظى بمساحات متكافئة من النقاش والتفكيك، خصوصاً أن البيان الصحافي الخاص بالمؤتمر يفيد بأن اللجنة المنظِّمة استقبلت أكثر من 250 مقترحاً بحثياً، وأقرت المقترحات المتميزة منها من أجل تقديمها في أوراق بحثية، كما استقبلت اللجنة أكثر من 110 أبحاث تم إنجازها، فخضعت جميعها للتحكيم، وتمت إجازة 57 بحثاً للمشاركة في المؤتمر. 

يقول متري: "لقد غربلنا البحوث، وتبين لنا أن 40% من الملخصات صالحة للقبول، لكننا اشترطنا عليهم أن يرسلوا أوراقهم لتقييم ثان، وكان هذا التقييم سريعاً نوعاً ما لضرورة الوقت، فتساهلنا قليلاً في موضوع التحكيم بالمعنى الأكاديمي. وانتهينا أخيراً بنحو 15 ورقة عن تونس ومصر، وورقة واحدة عن ليبيا، وحصلنا على شيء من اليمن بصعوبة. أما سوريا، فقد خفنا ألا يتمكن الباحثون من القدوم إلى بيروت، خصوصاً اننا نعاني الأمرّين لنستحصل لهم على تأشيرات دخول إلى لبنان، ولأن كثيرين منهم يخافون على أنفسهم في بيروت". 

لكن.. لماذا "نجومية" مصر وتونس؟ رغم أن سوريا واليمن، مثلاً، أكثر سخونة اليوم، بالمعنى الأمني وحتى الإقليمي.. 

هما الثورتان الأوليان، ونجحتا بسرعة مقارنة بدول أخرى تعثرت. وهما اللتان سرعان ما ظهر فيهما تناقض إسلامي – علماني. فيهما دولة قوية نسبياُ وثابتة الأركان، ومجتمعات متجانسة طائفياً وإثنياً وقبلياً. ثمة دور للجيش، في مصر كفاعل رئيس في السماح بالثورة ثم طيّ صفحتها – كي لا نقول الانقلاب عليها – بينما في تونس فقد احترم الجيش الشرعية السياسية وهو أصلاً لا نفوذ اقتصادياً له ولم يحكم تونس الحديثة.. هذا يغري الباحثين، على ما يبدو..

والحال أن مَن يتصفّح برنامج المؤتمر، لا يرى في عناوينه، كلمات من نوع: حرب، إسلام، طائفية... رغم أن الكلمات هذه باتت صنو الموضوع اليوم، ومحرّكه. أهو الخوف من أشواكها؟ 

طبعاً سنناقش هذه الكلمات ومدلولاتها، لكن الحقيقة أن الأوراق البحثية التي بين أيدينا، تبدو على قدر من التناثر، وهذا ما يجعل جمعها في ندوات أصعب، ويحتّم العناوين الأكثر عمومية. مسألة انفجار العنف بسبب الولاءات ما دون (أو ما فوق) الوطنية، سيتطرق إليها عدد من الباحثين، لكن، بصراحة، لا أوراق كافية في ظني لمعالجتها فعلاً، وربما علينا أن نخصص لها ندوة إضافية.
والحال إننا في العنوان العام للمؤتمر، تعمدنا استخدام كلمة "مآلات"، لكننا لم نحصل على الأوراق الاستشرافية التي تمنيناها. بل اقتصر ما وصلنا على تقييم الماضي، والحاضر، وعُسر العملية الديموقراطية. لعلّي أتفهم ذلك، لأن أحداً لا يريد المغامرة باستشراف المستقبل. لكني في الوقت نفسه أشعر بشيء من الخيبة لأني كنت أتوقع تلمّس بعض الجرأة العلمية لصالح المؤتمر... 
وبالعودة إلى الكلمات التي سألتني عنها: نُظّمت في ليبيا أربع دورات انتخابية نزيهة وحرة، لكني كنت دائماً شكاكاً، وأقول لزملائي في الأمم المتحدة إن الديموقراطية ليست مجرد انتخابات. في ليبيا مثلاً، يجب أن تبدأ من من إجماع وطني على بناء الدولة والمشاركة السياسية لكل قوى المجتمع. ثم يؤسس الناس الأحزاب ويعتادون المشاركة والاختلاف. أما في مجتمع قائم على العصبيات والأحقاد وهو بلا حياة سياسية (كما هو الحال في سوريا أيضاً)، فالانتخابات ستصبح حرباً بطريقة أو بأخرى... 
المهم، ما أريد قوله هو أن المضمر في كلامنا، لا سيما في المؤتمر المرتقب، هو أن التحول الديموقراطي ممكن دائماً، لكن متى؟ وبأي شروط؟ هذه هي الأسئلة المعلقة. والحال إننا لا نستطيع القول، في المقابل، إننا غسلنا أيدينا من العالم العربي والإسلامي. 

ألذلك بدا البيان الصحافي الصادر عن "المركز العربي" أكثر تفاؤلاً من بيان "معهد عصام فارس"؟

(يبتسم): ربما يعود ذلك إلى أن الباحثين في المركز والعاملين فيه. فهُم، من حيث يشرفون على الثورات، أي من مقرهم في الدوحة، لا بد أن يكونوا أقل خيبة ممّن يتابعون الملفات نفسها في لبنان كما هو حالنا. هنا، نحن في محاولة دائمة لمقاومة اليأس، ولإقناع الآخرين بأنهم يبالغون حين يقولون أن كل شيء انتهى. كل يوم أصادف أساتذة جامعيين يقولون لي: "أي ثورات يا رجل!". وكل يوم نسمع، من مثقفين وغير مثقفين، مقارنات بين حال دول الثورات، قبل إطاحة/محاولة إطاحة الأنظمة، وبين اليوم. في حين أن مثل هذه المقارنات ليست عادلة بالطبع، وهذا أكيد، لكن دحض هذا "التيار" يصبح تحدياً أكبر وأنت في قلب المنطقة الملتهبة بكل صراعاتها وتناقضاتها. لعلنا على احتكاك مباشر بالخيبة العملية، أكثر من ثوريين هم الآن أبعد جغرافياً، ويعكفون على كتابة الكتب والبحوث عن مسألة الثورات.

عندما يرد في أحد عناوين الندوات: "بنية الدولة وتأثيرها في التحول الديموقراطي"، يبدو كأنكم تكتشفون هذه الدولة/الدول اليوم. والمفترض أن الثورات كانت لقلب هذه البنى وإيجاد بدائل لها، ولو تدريجياً، وذلك من باب أن من كانت تسمّى "القوى الثورية" تعرفها جيداً وتأذت منها طويلاً، ويفترض أن النخب أيضاً تعرفها، إذ يربو عمر أصغرها على الثلاثين عاماً.. لكننا الآن، وبعد خمس سنوات، ما زلنا ندرس تأثيرها في صعوبة تحقق أحلام الديموقراطية.. 

المؤتمر يناقش مسألتين: الدول الهشة، لا بل الفاشلة، والتي لا تمتلك الشرعية الكافية ولا صفة التسامي على تناقضات المجتمع، وبالتالي تستحوذ عليها السلطة، ولا تعود لكل الناس، وتكون دولة مفككة وضعيفة وغير مقبولة من الجميع، فيكون التوجه الديموقراطي هو في اتجاه إعادة بنائها، كما هو الحال مثلاً في ليبيا واليمن.. وهناك الدول الأمنية (المسمّاة العميقة)، والتي تسيطر عليها أجهزة المخابرات والجيش، كما في مثالَي مصر وسوريا. هذه دول تقهر المجتمع أو تسود عليه. دول قوية تضع الثوار أمام مازق (خصوصاً في سوريا): إما هدم الدولة والذهاب إلى الفوضى، أو السعي إلى إعادة بنائها، الأمر الذي – إن نجح – سيتطلب سنوات... أو محاولة الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه، ومن هنا نرى سوريين يقترحون الحفاظ على الجيش في مقابل حلّ الأجهزة الأمنية... لكن في النهاية، ما هي الدولة فعلاً غير هذه الأجهزة؟ 

هل سيكون هناك حديث واضح وصريح عن المواقع السوسيولوجية والسياسية والثقافية للطوائف، وصراعاتها؟ أم سيتم التلطي خلف مصطلحات عمومية؟

غالبية الأوراق لا تقارب المسائل الطائفية، لأن غالبية المشاركين تناولت مصر وتونس والمغرب كما قلت في البداية. لكن في النهاية، لا أحد يستطيع الهرب من موضوع انفجار الطوائف والإثنيات. في ليبيا مثلاً هناك تجانس طائفي، لكن العصبيات القبلية والمناطقية بالسوء ذاته. العصبيات قوية حيث لا قانون ولا مساواة بين المواطنين... 

وكان ذلك قبل الثورات.. في الغالب أن ما بدأ كانتفاضات شعبية ليس هو السبب، لكن الفوضى ظهّرت العصبيات التي كانت مخنوقة بالقمع، وفي بعض الأحيان كبرت كرة الثلج قبل إمكان تداركها، أو ربما كان عدم تداركها عمداً، بسبب أنظمة شعرت بالتهديد، فقالت: عليّ وعلى أعدائي..

نعم، طبعاً، كان القوميون العرب، مثلاً، يعتبون على "البعث" السوري لأنه لم يحقق وحدة أو حرية أو اشتراكية عربية، في حين أن فشله الفعلي هو على صعيد أصغر وأهم: أنه لم يكوّن هوية وطنية موحّدة للسوريين، وكذلك الأمر مع "البعث" العراقي. رعاية التنوع أمر صعب، لذلك كان الحل واحداً عند آل الأسد في سوريا، وصدام حسين في العراق، كما جوزيف تيتو في يوغوسلافيا.. المساواة في القمع والاستئثار بذريعة العلمانية أو الأمن. 

كيف جاءت فكرة التعاون بين "معهد عصام فارس" و"المركز العربي"؟

إضافة إلى إدارتي لمعهد عصام فارس، أنا أيضاً عضو في مجلس إدارة المركز العربي. ورأيت التعاون مهماً لأن الجامعة الأميركية في بيروت مؤسسة تدريس بالانكليزية، لكن لها تاريخاً عربياً/عروبياً حافلاً، وخرجت منها نخب عربية كان لها باع في إطلاق أفكار تحررية طبعت ثقافتنا خلال قرن مضى. ومعهد عصام فارس معظم شركائه جامعات غربية، وهذا مفيد طبعاً، لكني أحببت أن أعيد العربية إلى الجامعة. فلدينا هنا 50 ورقة مقدمة بالعربية، وهذا لم يحصل في "الأميركية" من قبل. وهكذا تشاركنا مع المركز في هذا المؤتمر واقتسمنا كل شيء، من الميزانية إلى اللجنة التحضيرية.

أي ندوة في المؤتمر، تتطلع أنت شخصياً لحضورها بدافع الاهتمام والفضول؟

(يضحك) لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال.. لكني أريد أنوّه بجلسة مختلفة عن الندوات الأكاديمية، وهي بعنوان "حلقة نقاشية مع شخصيات شابة ساهمت في الثورات"، بعد ظهر الجمعة 22 الجاري، حيث سيقدم شباب من مصر وسوريا وتونس شهاداتهم، وسيتحدثون عن أدوارهم وآمالهم وخيباتهم وما حلّ بهم منذ ذلك الوقت. ففي ظل المبالغات في تقدير دور الشباب من جهة، أو الاستخفاف به من جهة ثانية، لا بد أنه من المثير للاهتمام الاستماع إلى ما سيقولون.