كانت خطبة الوداع مؤثرة فعلا. الانجازات دقيقة، والنوايا صادقة، والوصايا صريحة..واذا ما ترجم بعضها على أرض الواقع، فان اميركا يمكن ان تصبح الى حد ما“جمهورية فاضلة”، ويمكن ان يدخل رئيسها المفارق باراك أوباما التاريخ، ليس لمهارته الخطابية المذهلة ولا لون بشرته المختلف، بل بوصفه زعيماً فعلياً غيّر وجه اميركا وصورتها، وعدل مسيرة حياة الاميركيين ومستوى معيشتهم، وترك أثراً عالمياً لا يمحى.

  كانت خطبة أوباما الرئاسية الاخيرة أمام الكونغرس شهادة على ان اميركا ما زالت في مرحلة انتقالية حرجة، من الدولة التي تستمد عظمتها من قوتها العسكرية الهائلة وسرعتها(تسرعها) في استخدام تلك القوة الى حد الافراط والى حد الادعاء ان دور شرطي العالم تكليف سماوي، الى الدولة التي تحاول التكيف مع عالم متغير، مضطرب، وتعيد بناء نفسها، بدءا من نظامها السياسي، الى بنيتها الاقتصادية، الى تركيبتها وقيمها الاجتماعية، لكي تحافظ على عظمتها وتفوقها. 

كانت الخطبة نصاً سياسياً باهراً ليس فقط بالمعايير الاميركية، بل حتى العالمية. لا يمكن لزعيم أي دولة (كبرى) في العالم ان يضاهيه لا في اللغة ولا في الثقافة ولا طبعا في الافكار. بدا قادة روسيا والصين وحتى اوروبا الغربية متواضعين، بل ربما أُميين، بالمقارنة مع اوباما الذي كتب بنفسه على الارجح الجزء الاكبر من وصيته الرئاسية الاخيرة. 

لم تكن رسالة معمقة في السياسة الخارجية محملة بمواقف حاسمة من القضايا الدولية. خطاب حال الاتحاد امام الكونغرس هو في الاصل مراجعة سنوية للمنجزات والخطط والبرامج الداخلية تحديداً، مع مرور عابر على بعض الشؤون الخارجية.. وهو ما كان بعض الرؤساء السابقين يتوسع به حسب طبيعة الحروب التي تخوضها اميركا او حسب الازمات التي تتورط بها. هذه المرة إلتزم أوباما بالتقليد ولم يغادر الحدود الاميركية إلا لماماً.

تكليفه بالرئاسة كان لهذا الغرض بالذات. وقد إحترمه بشكل مطلق. فأخرج اميركا من حربين مكلفتين، خاسرتين، ومن أزمة اقتصادية أشبه بالكساد الكبير في مطلع القرن الماضي، وحدد أولويات مختلفة لجدول الاعمال الوطني: الصحة، الطاقة، البيئة، التعليم..وتمكن بالفعل طوال السنوات السبع الماضية من خفض معدلات الفقر والبطالة والجريمة. وها هو في خطابه بالامس، يعلن أيضاً ان النظام السياسي الاميركي بحاجة الى تحديث للحد من دور المال والفساد، وبحاجة حتى الى تعديل القوانين الانتخابية..  أميركا في طور الارتقاء الثاني او الثالث، لانها حسب تلميح أوباما في خطابه لا تعتبر روسيا نداً ولا ترى في الصين منافساً ولا ترى في الشرق الاوسط تهديداً.. وهي في قتالها مع داعش لا تخوض حرباً عالمية على الاسلام والمسلمين على غرار الحرب التي شنها سلفه جورج بوش، في اعقاب هجمات 11 ايلول 2001 ، ودفعت اميركا ثمنها باهظاً.

  قد تبدو تلك النظرة الى العالم الخارجي رومانسية، لكن، هذه هي اميركا التي اختارت أوباما رئيساً والتي تستعد لوداعه بعد سنة باعتباره واحداً من كبارها، لتختار واحداً (او واحدة) من الصغار الذين يتنافسون اليوم على خلافته، ويمكن ان يطيحوا بكل الانجازات الداخلية التي حققها، كما يمكن ان يستأنفوا المغامرات الخارجية.. التي قد يثبت مرة أخرى انها جزء من التكوين ومن الدور الاميركي (الامبريالي!) الذي لا يستقيم من دون فتوحات عسكرية في الخارج.

لم يكن أوباما في سنواته السبع الماضية ساذجاً ولا كان الاميركيون بسطاء. كان الاخرون  انتهازيين، إستفادوا من حقبة العزلة الاميركية لكي يتوسعوا ويتمددوا، ولكي يعيدوا إنتاج أسوأ ما لديهم من طغيان وتطرف، فكانت كلفة تلك الحقبة باهظة جداً في العراق وسوريا وفلسطين واليمن وليبيا.. لكنها تبقى أقل بكثير من كلفة تدخل اميركي يبدد إرث ذلك الرئيس الناجح، الذي أصدر حكماً فظاً (ودقيقاً)على جيل كامل في الشرق الاوسط يخوض اليوم نزاعات يربو عمرها على ألف عام.