ليست "التاتشرية" في القاموس السعودي عملية تفعيل إقتصادية فحسب، كالحديث مثلاً عن إدراج شركة "أرامكو" العملاقة في سوق الأسهم أو كفتح البورصة السعودية أمام المستثمرين الأجانب، و"التاتشرية" تذكّرنا بالسياسة الحازمة والقوية التي طبقتها مارغريت تاتشر زعيمة حزب المحافظين في بريطانيا بين عامي ١٩٧٩ و١٩٩٠، أكثر مما تذكرنا بدورها في تطوير الاقتصاد البريطاني.
وهكذا عندما يقول ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمجلة "الإيكونوميست" إن السعودية تشهد حقبة "تاتشرية"، فإنه يحاول ان يسهّل فهم معنى الحزم والصلابة في السياسة السعودية في عهد الملك سلمان، الذي أطلق "عاصفة الحزم" لمواجهة تحدي الإيرانيين في اليمن بعد وصولهم الى باب المندب لتشكيل فكيّ كماشة حول الخليج من مضيق هرمز جنوباً الى باب المندب شمالاً.
الواقع أنه لم يكن غريباً أو مفاجئاً ان تنحو الرياض هذا المنحى الحازم في سياستها الجديدة لمواجهة التحديات الإيرانية المتسعة والتي تراكمت منذ ٣٥ عاماً تقريباً على خلفية حسابات إندفاعية، لطالما بدت في نظر جيرانها الخليجيين، كأنها عملية تحدٍ تراكمي تحاول فرض ايران لاعباً محورياً وحيداً في الإقليم يملي رأيه وسياساته على الآخرين وداخل بيوتهم.
لطالما شكت السعودية ودول الخليج من محاولات التدخل الإيرانية في شؤونها الداخلية بطريقة تجاوزت توازن الأكثريات والأقليات، وسمحت لطهران عبر مفهوم ولاية الفقيه ان تنظر الى أي مواطن شيعي في أي بلد عربي، على انه ايراني الإنتماء وان له هوية إيرانية يفترض ان تتقدم هويته الوطنية، ما يعطيها حق ربطه بسياستها ويفرض عليه الإنسياق في هذه السياسة، التي بدت في العقود الثلاثة الأخيرة كأنها تسعى الى فرض ايران مرجعية إقليمية اسلامية مقررة لها تشكيلاتها العسكرية وكتلها القوية داخل الدول العربية!
نظرياً لم يكن هذا سهلاً، لكن ما ساعد القادة الإيرانيين على ان يمضوا بعيداً في هذه السياسة هو اولاً طول الأناة والصبر عند الآخرين والمراهنة على ان تستيقظ طهران على خطورة ما تفعل، وهو ما لم يحصل بدليل ان زعماءها تباهوا علناً بأنهم أصبحوا يديرون اربع عواصم عربية، وثانياً إنخراط اميركا في التفاوض سراً معهم من وراء حلفائها الخليجيين.
لهذا عندما اعلن الملك سلمان "عاصفة الحزم" دفاعاً عن الشرعية اليمنية ووقفاً للزحف الإيراني في الإقليم، وعندما يعلن الأمير محمد عن "تاتشرية" في السياسة السعودية، فإن ذلك يأتي رداً على ثلاثة عقود من الإندفاعات الإيرانية غير المحسوبة، التي لم يطفح بها على ما يبدو الآن، كيل السعودية وحدها بل كيل الخليجيين والعرب والمسلمين من موريتانيا الى باكستان، وهو ما يعطي الأمر شكل إنتفاضة سنّية آخذة في الإتساع ضد التدخلات الإيرانية، وكل إتهامات طهران وأذرعها المتصاعدة تزيد الإلتفاف حول الرياض.