من أسوأ أساليب التعمية والهامشية السلبية في الحياة , الانتماء المذهبي على طريقة الانتماء العشائري القَبَلي  , الذي يُلغي الحضور الذاتي للإنسان , ويجعله " إمّعة " تابعة للجماعة كيف ما دارت يدور , وبالتالي لا مكان للعقل ولا للسؤال ولا للفعالية ولا للفعلية الشخصية على الاطلاق , وأبرز وصفٍ لهذه الحالة التي يكون فيها الإنسان أداة في يد السائد المُنحرف  قد وردت على لسان الشاعر الجاهلي " دريد بن الصمة " , بأبلغ وصف , حيث قال :

وهل أنا إلا من غزية إن غوت  غويت , وإن ترشد غزية أرشد

هكذا هو حال أغلب الناس في المجتمعات التي تحكمها العصبية بمفهومها العام , هذه البُنية الفكرية هي التي كانت حاكمة في العصر الجاهلي على المجتمع العربي في الأغلب , وكانت سببا أساس في خَلقِ حالات التوتر بين الناس من خلال الحروب والتقاتل وبالتالي التباعد الانساني والاجتماعي , الذي فرض حالة التخلّف على كل المستويات .

جاء الاسلام بشعار واضح لإخراج الناس من هذه الحالة المتخلفة , وأول ما سعى إليه هو إلغاء هذه البنية الفكرية وتأسيس بنية فكرية ثقافية جديدة , عِمادها فكرة التوحيد والتوحّد ,  وإلغاء الفوارق بين الناس على أساس الانتماء العشائري , وجعل الفارق الوحيد بين الناس هو المنظومة الاخلاقية والقيمية , وقال رسول الله صلى الله عليه وآله , لا فرق بين عربي وأعجمي ولا بين أسود وأبيض إلا بالتقوى , ودعى للتعارف بينهم والتقارب , ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن الله عليم خبير )  وقال أيضا : أنما المؤمنون إخوة .

نجح الاسلام بداية في إلغاء المنظومة الفكرية والثقافية التي كانت سائدة في العصر الجاهلي , وأسس منظومة فكرية وثقافية جديدة , أي أن الاسلام فكّك بنية العقل العربي الجاهلي وركّب عقلا عربيا إسلاميا , وساد هذا التركيب الجديد فترة من الزمن في حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وبعد عصر النبي (ص) مباشرة وبمدة زمنية قليلة  وللأسف بدأ التركيب الجديد يتفكك بعد غياب المؤسس , وعادت البنية الفكرية القديمة تبرز وتسود  من خلال التمذهب والعصبية , حتى وصل الفكر إلى ما كان عليه في العصر الجاهلي , فعاد المجتمع الاسلامي إلى التفكك والتعصب وثقافة التمذهب , إلى أن إستفحل التفكك فيما بعد بتأسيس وتشكيل المذاهب الاسلامية , وبدأت تلك المذاهب تؤسس منظومات فكرية على قياسها لتخدم مشروعها الخاص على اساس العصبية , وليس على قياس الدين الاسلامي , الذي دعى إلى دمج الثقافات وتأسيس فكر ديني جامع .

فالكل اليوم يردد مقولة الشاعر الجاهلي (وهل أنا إلا من غزية إن غوت  غويت , وإن ترشد غزية أرشد ) , والعقل في إجازة مفتوحة ,( ونجانا  الله من الاعظم ) .