قبل اندلاع هجمات “7 أيار” الشهيرة التي قام بها حزب الله في ذلك اليوم من عام 2008 ضد معارضيه، كانت قد صدرت في الخامس من نفس الشهر قرارات عن الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة اعتبرها حزب الله عدائية تستهدف أمنه (من خلال المسّ بشبكة الاتصالات الخاصة به وإقالة ضابط الأمن المسؤول عن المطار والمقرب منه)، ما أنتج وعيدا فوريا من قبل السيد حسن نصرالله أُتبع بتحرك ميداني استخدم فيه السلاح لإسقاط تلك القرارات.

القرارات التي اتّخذتها الحكومة، آنذاك، تعتبر سيادية تدافع عن منطق الدولة في وقوفها بوجه منطق الميليشيات.

بَيْدَ أن الخروج بقرارات من هذا النوع كان مخالفا لقواعد توازن القوة التي كانت، وما زالت، تميل بأشواط لصالح حزب الله وما يملكه من فائض سلاح، مما فاجأ خصوم الحزب قبل أنصاره.

وأذكر في هذا الصدد، أن المعطيات التي كنا نملكها، كمراقبين، لم تكن تسمح باستشراف ذهاب الحكومة إلى صدام مع حزب الله، لكننا اعتبرنا أن حكومة السنيورة في بيروت، بما تملكه من امتدادات إقليمية ودولية وما يصلها من معلومات وتطمينات، أدرى منا، وتتحرك وفق قواعد متينة في مشهد العلاقات الدولية.

أوضحت واقعة “7 أيار” أن حكومة ذلك الوقت لم تكن تمتلك من المعطيات أكثر مما نمتلكه، وأنها اتخذت قراراتها وفق صناعة محلية داخلية، وأن الدوائر الإقليمية والدولية، المفترض أنها مساندة، وقفت تتأمل، عن بعد، صخب السلاح يطيح بقرارات الحكومة، ويطيحُ بعد ذلك بقرارات البلد. وحتى الآن لا نعرف أسرار سلوك حكومي تصرّف بعفوية بعيدة عن الحدود الدنيا للمهنية، سواء في دراسة المزاج الدولي ورصد أهوائه، أو في الاستعداد الميداني لردود فعل ميدانية مضادة وتوقّع احتمالاتها.

من تلك الذكرى نلجُ حديثا لواقعة أخرى تمثّلت في مبادرة الرئيس سعد الحريري لانتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية اللبنانية. لم تعلن المبادرة رسميا، لكنها شغلت النخب السياسية كما الرأي العام، وظهرت وكأنها نتاج صفقة معقّدة، إقليمية دولية، تفضي إلى تسوية عجيبة في لبنان دون ساحات الصراع الأخرى.

كالمعتاد استسلمنا، كمراقبين، لورشة اعتبرناها صنيعة الكبار. استغربنا اختيار الحريري لفرنجية المتحالف تاريخيا مع نظام دمشق وشخص رئيسه. وطرحنا أسئلة حول مصلحة الرياض في دعم هذا الخيار، وهي التي تجاهر بضرورة إبعاد “صديق” سليمان فرنجية، بشار الأسد، عن أي موقع في مستقبل سوريا، وتساءلنا عن مدى جهوزية طهران لمجاراة مبادرة خصومها (الحريري لبنانيا والرياض إقليميا ودوليا)، حتى لو وقع خيارهم على واحد من أعمدة “الممانعة” المحلية المدعومة من أعمدة “الممانعة” الإقليمية. ومع ذلك خضعنا لغموض لعبة الأمم، وقبلنا مقاربة المبادرة بصفتها نتاج ذلك.

نكتشف هذه الأيام أن لا واقع عقلانيا أباح التقدّم بمبادرة من هذا النوع، ذلك أن المعطّل الأول للانتخابات الرئاسية في طبعتيْه المحلية (حزب الله) والإقليمية (إيران) كان غائبا عنها، رغم علمه بمجرياتها وفق ما يفيدنا سليمان فرنجية نفسه. وأن ترنّحَ المبادرة وربما انهيارها، لا يعود إلى تراجع بعض أطرافها، لا سيما الطرف المعطّل، بل بسبب ثباته على موقف جديد- قديم بتدجين النظام اللبناني برمته لصالح رؤاه في لبنان ومزاج الولي الفقيه في إيران. فإذا كان من حق طرف لبناني وآخر إقليمي أن يدافع عن خياراته وطموحاته المعلنة في البلد، فبأي مسوّغ أتتْ مبادرة الحريري لـ”ترئيس فرنجية”، وعلى أي قواعد تأسست؟

لا يمكن تعليق “اهتراء” المبادرة على مشجب التوتر الحاد هذه الأيام بين إيران والسعودية.

فلبّ الخلاف بين البلدين متفجّر ومباشر في كل المنطقة، ومنذ سنين، على ما يمنع تخيّل صفقة في لبنان. والخصومة محتدمة بين حزب الله وتيار المستقبل، ولا يواريها الحوار السريالي الجاري بينهما، على نحو لا يوحي بإمكانات تعايش تعيد سعد الحريري إلى البلد ولرئاسة الحكومة. والأهم من كل ذلك، أن الورشة في سوريا قائمة بوتيرة عالية تشي بتحوّلات كبرى لا تسمح بإنتاج توافق على رئيس للبنان لست سنوات مقبلة. وأخيرا لم تكشف الدوائر الدولية عن أي رعاية حقيقية لمبادرة الحريري، وما الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مع المرشح سليمان فرنجية، إلا من قبيل اللياقة التي تلت لقاءه بالحريري المبشّر بمبادرته في باريس، على ما يعكس هلامية الإشراف الدولي للمبادرة وعرضيته.

تخرج أصوات في تيار المستقبل وتحالف “14 آذار” هذه الأيام لإعادة اكتشاف أن حزب الله يعطّل انتخاب الرئيس، وهو، أي حزب اللّه لا يخفي ذلك متدثرا بمرشحه ميشال عون، فما الذي استجد ليبتلع صفقة فرنجية؟ وإذا ما كيلت الاتهامات ضد الحزب سابقا بأنه يروم تغيير النظام اللبناني والإطاحة بـ”الطائف” والذهاب إلى المثالثة، فما الذي تغير في عُرف المتّهِمين، حتى يخضع الحزب فجأة للطائف ويُسقط مطلبه بالذهاب إلى مؤتمر تأسيسي ويتخلى عن ميشال عون (الرافض للطائف) ويأتي بطائفي (نسبة للطائف) ليقود البلد من قصر بعبدا؟ وربما السؤال الأكبر والذي لا بد أن له جواب قد تكشف عنه الأيام يوما (رغم أنها لم تكشف عن سرّ قرارات الحكومة في ‘5 أيار’)، هو كيف يسير سعد الحريري بمبادرة ومرشح دون نسج تفاهم جُوّاني ضمني مع حزب الله وإيران، وما المعطيات التي امتلكها الرجل “ليعشّم” فرنجية بالرئاسة ويقنعه بجدية وصلابة مسعاه؟

في المحصّلة استمتع حزب الله بتأمل الاعتلال الذي أصاب “14 آذار”، وربما تيار المستقبل أيضا، جراء مبادرة تسرّبت منذ لقاء الحريري – فرنجية في باريس، والتي كان الحزب يعلم بها، على ما يمكن أن يميط اللثام عن مصادر محتملة للتسريب. أفرط الحزب في صمته وإحجامه عن أي تعليق، على ما فُهم بأنه قبول مبدئي بها بانتظار نضوجها. وحين كشفت المبادرة عن نفسها وبدت عارية لا تحميها دروع تُذكر، خرج الحزب مطيحا بها في حضرة البطريرك الماروني ومن على منبر بكركي، وراح قناصته يمطرونها بما فُهم أنه تمسكٌ بالمطالبة بتغيير النظام السياسي، تارة من خلال الحديث عن سلّة تسويات شاملة، وتارة أخرى بمطالبة الحزب (الشيعي) بتعديل صلاحيات رئيس الحكومة (السني) بداعي انتقاصها من صلاحيات رئيس الجمهورية (المسيحي).

تسقط مبادرة الحريري، ولا يبدو أن أعجوبة ستتدخل لإنقاذها. وقد تمثّل المبادرة فشلا سياسيا آخر لفريق لا يجيدُ الحساب ويقارب الأمور بعفوية، قد تقترب من السذاجة. يُعاد تكرار نفس الأخطاء التي تتجاهل طبيعة حزب الله ولا تستشرف ردود فعله ولا تأخذ في الاعتبار جديّة المشروع الذي تعمل عليه إيران في كل المنطقة دون كلل.

طبعا يجب الإقرار بالمقابل، أن مبادرة الحريري، على ارتباكها، أعادت تحريك مياه راكدة في ما بات مستنقعا ساكنا، وعبّرت عن قدرة على الإمساك بزمام المبادرة. أمر كهذا استفزّ حزب الله، فكتم غيظه هنيهة، قبل أن يُخرج مخالبه منذ أيام ويفصح على لسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد “أن لا مكان له في لبنان”. كان الرجل يتحدث عن سعد الحريري صاحب المبادرة مذكّرا “بوقاحة”، على حدّ تعبير النائب المستقبلي أحمد فتفت، أن كثيرا من الطرق إلى بيروت تمرّ عبر حارة حريك.

 

محمد قواص

المصدر:صحيفة العرب