أسقطت حرب سوريا ما تبقى من قيم وأخلاق يتغنى بها المجتمع الدولي ويطربنا بها.

وأصبح المثل الشعبي القائل:" عاهرة تحاضر بالعفة" ينطبق على الإزدواجية المتطرفة التي يمارسها هذا المجتمع في عالمنا اليوم. مضايا إحدى مناطق الريف الدمشقي السوري، تعاني أزمة إنسانية خانقة بسبب الحصار الجائر الذي يمارسه النظام السوري وحلفاؤه. حصار يعكس إنهيار منظومة أخلاقية بكاملها وإستسلامها المذل أمام المبدأ المكيافيللي القائل:" الغاية تبرر الوسيلة". شعار يمارس كل يوم في سوريا من قبل جميع أطراف الصراع لتثبيت قواعد ومعادلات في السياسة والعسكر على حساب الأطفال والعجزة والمساكين.

مضايا لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، قبلها كانت منطقتي النبل والزهراء في الريف الحلبي حيث مارست قوى المعارضة المسلحة آنذاك ولا تزال حصارا خانقا على القريتين، حصار يدفع ثمنه المساكين والمظلومين. ورافق محنة مضايا تجربة الفوعة وكفريا في إدلب حيث تكرر مشهد نبل والزهراء في كلا المنطقتين. 

لكن كل من هذه المناطق الأربع وعلى مساوىء ما يمارس ضدهم لا يوصف أمام محنة مضايا. فنبل والزهراء يصل الغذاء إليهما عن طريق الإنزالات الجوية والفوعة وكفريا أقفل ملفهما بترانسفير ديمغرافي إلى مناطق أخرى تعكس مستقبل التقسيم في سوريا. ومن ضمن إتفاق الزبداني، كان هناك بند حول السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى مضايا. لكن البند لم يطبق، وبدأت تظهر الكارثة.

تعيش مضايا اليوم كارثة إنسانية بحق، من نقص حاد بالمواد الغذائية الأساسية كالخبز ، يقابله إرتفاع حاد بأسعار المتبقي النادر من المواد بسبب جشع بعض التجار في داخل البلدة. حصار أدى إلى موت الكثيرين جراء المجاعة الخانقة التي تذكرنا بالمجاعة التي حلت في جبل لبنان أيام الحرب العالمية الأولى وما ظهر فيها من كوارث منها ظاهرة الهياكل العظمية النحيفة من شدة الجوع، وعندما كنت أطالع صور تلك المرحلة كنت أطلق أحكام المبالغة على الصور ولكني اليوم  صدقتها.

نعم في 2016 غياب الأخلاق والدين والقيم تفرض نفسها واقعا كما كان إبان الحرب الكونية الأولى. فالحال من سيء إلى أسوأ، ومن شدة النقص الحاد الحاصل في المواد الغذائية، يضطر أبناء مضايا إلى تسخين الماء صباحا وخلطها مع البهارات وأكل أوراق الشجر والعشب ووصل بهم الأمر إلى ذبح القطط والكلاب وأكلها. الذي يحصل في مضايا وحصل قبله في النبل والزهراء وكفريا والفوعا لا يمكن فصله عن الخلفية المذهبية في التعاطي مع الآخر. لقد أصبح التعامل مع الآخر على أساس مذهبه، فإن كان يطابق المذهب فهو يستحق الحياة ولو كان جزارا وإن خالف فهو يستحق الموت ولو كان طفلا بريئا.

الخلفية المذهبية الحاقدة والتي تتقاطع مع مصالح سياسية في لعبة الأمم يدفع ثمنها الأبرياء. فلا يمكن تبرير ما يحصل بمضايا بالقول أنهم فعلوا ذلك معنا في الفوعة وكفريا، فالخطأ لا يبرر الخطأ والظلم لا يشكل دافعا لظلم أحقر فلا تزر وازرة وزر أخرى.

ولا تدفع الأمور نحو التخيير بين عيش ذليل أو موت حرم لذة الشبع في عالم الترف. ما ذنب طفل مضايا من الصراع الحاصل وما جريمته وهو خلق إبان الأزمة ليعيش ظلما لا يرضاه الله ولا ترتضيه الفطرة البشرية. لا فرق بين طفل النبل وطفل مضايا وعجوز الفوعة وعجوز مضايا، نحن أمام إنسان هنا وهناك، أمام وقفة حق ولو كانت مؤلمة وإعتراف بفشلنا كعرب ومسلمين في إمتحان الأخلاق والدين.

أين علي بن أبي طالب من طفل مضايا ورجل يأن من الجوع ويكفر بالحياة. أين ثورة الحسين ضد المظلوم أينما كان في الفوعة أو مضايا.

نحن أمام إختبار الظالم والمظلوم، لا سياسة ولا تزييف حقائق ولا تبرير، بل وقفة ضمير أمام مجزرة ترتكب يوميا في مضايا بإسم الله. أرى في أطفال مضايا أطفال قانا وغزة، جراح الألم وصراخ الجوع وآهات وأوجاع تختصر مسرحية لأصنام لا يعبدون إلا ذواتهم ولا يقدسون إلا مصالحهم.

أرى في طفل مضايا ما رأيته في أطفال النبل والزهراء، بعيونهم التي ذبلت من شدة التعب وشفاههم العطشة كرضيع الحسين في كربلاء. أرى الشيطان فرحا وهو يغوي عباد الرحمن بطشا وحقدا وموتا وحصارا وتجويعا. فالشيطان لا يميز بظلمه والله لا يميز برحمته. فإرحموا تلك الصرخة من طفل  هو ضمير كل حر وشريف في زمن الإنحلال الأخلاقي وغياب الله في نفوس البشر، وتجمد شرايين الحياء أمام أم تطلب حليبا لإبنها وعجوز هلكه الزمن وأتعبه الظلم.

إرحموهم يرحمكم الله. ستكتب الأجيال أن رغيف الخبز كان أمنية طفل في يوم من الأيام. لمضايا ولأخواتها الدعاء فلا يمكننا إلا الدعاء...

  بقلم: هلال رميتي.