سأغلق الباب والنافذة وكل فتحةٍ وشقٍّ في الجدار حتى لا يأتيني من صنف يتقن فنَّ التجارة مع الله والناس ، ويتقن إسترسال اللحى واللسان الذي يُغري ويُفري صلاحه فيأكل ما تبقَّى من هيكل البيت ويستغلَّ الطيبة والعفوية بلسان السياسة الخدَّاعة من أجل أمور عفنة..

عشتُ في قرية فقيرة فكنت أنتشر في دروبها دغشةً تحت ضوء مئذنة المزارعين والفلاحين وهم يصلُّون صلاة الإستسقاء تحت سماء صيف حبيس المطر وتحت غيمة الله ودفئ الشجر ، فكنت أجد نفسي في كيس التبَّغ لأشمَّ رائحة تراب الجنوب وذكريات مخبَّأة في ذاكرة الصلاة ، وأكتشف نفسي أكثر كلما جئت متفقداً حال المزارعين الطيبين وحقلاً من حقول أيديهم وأُبعثُ من جديد كلما غفوت قرب بساط أمِّي المُطرَّز بخيطان الدخان وأنتشر في مشاتل الورد والتَّبغ وحبق الحدق وما زرعته يداها الطهورتان في قلوبنا الباردة..

هنا أظن والظن متاخم لليقين بأني ولدتُ منذ اللحظة الأولى التي رأيت فيها أبي وهو يُعشِّب حقل العمر في أشواك القرية ويروي عظامنا بدمعٍ من شمع الأصابع وألسنة الميابر ، وما زال يمسح فقرنا بورق التَّبغ وما زلنا عرق الفقر الذي يمسحه في كلِّ موسمٍ من مواسم تسليم الدخان..

ما أحوجنا إلى تلك البراءة عندما يشتدُّ بنا الألم ويرفِسُنا الجوع إلى زوايا غير مرئية ، وتعبث بنا روائح اللحى والأحزاب والمارَّة وأحذية الأغنياء وكومة بؤسٍ في مقبرة الأحزان وما بين الأموات والتراب..لم نكن نعرف أنَّ خلف سدول الليل أضواء مدينة وبيوت من مرآة  وكنَّا نظن أنَّ بقعة الأشباح هي كل الأرض وأنَّ الأموات هم الأحياء....

أشعر بشيء خفيٍّ يتسلَّل على شكل أسئلة إلى مسجدي الخاص وأنا أفكُّ الأحجية ورزمة من الأدعية وأفتح قجج الدراويش والبسطاء من الذين يظنون أنَّ قروشهم ستتحوَّل إلى كروشٍ من ذهبٍ وفضَّةٍ أو إلى أجرٍ يصرفونه في إحدى دكاكين الجنَّة..فكلما غادرني واحدٌ منهم جاءني آخر بثوب الدِّين والوظيفة لا يختلف كثيراً ملامحاً ولسان كذب ومواعظ ناشفة..

سبحان من بادلني العيوب في مرآة الصداقة ، سبحان من أمسى وأصبح وهو يؤنِّب نفسه لتأنيب غيره..

سأشعل ما تبقَّى لديَّ من شموع حتى أرى ما  تبقَّى من ظلال وجووههم العالقة على النوافذ مثل الأنفاس من باعة التِّين والدِّين وتجَّار العملات الرخيصة...

ما أسعدني عندما ودّعتهم ورميت حجراً في بئر الغربة وبقيتُ واقفاً قرب الحائط تمرُّ من حولي كل الكائنات والأرصفة والطرقات وأمام الأحجار متقنِّعاً حياء الطفولة ورعشة الخوف من سكين قريب أو صديق...لم يرم الفرعون يوسف في البئر وإنما رماه إخوته دم أبيهم ولحم أمهاتهم المتوزِّع في جمال صدقه على مقبرةٍ من جنَّة منتجع الأغنياء والسماسرة ولصوص الدِّين والسياسة وباعة الأوطان والميتة والدَّم ولحم الفقراء