حتى الآن انقضت مهلة الأشهر الثلاثة، التي قيل إن موسكو وضعتها مبدئياً لعدوانها الجوي في سورية. كما هو معلوم، تراجعت موسكو عن وضع سقف زمني لعملياتها، بمعنى استمرارها طالما بقي النظام في حاجة إلى مساعدة، الأهم هو تصاعد حجم الضربات في الشهر الأخير واستخدام قوة تدميرية أعلى، مع الاعتراف على أعلى مستوى باختبار أسلحة روسية جديدة لهذه المناسبة.

 

 

المسؤولون الروس لا يخفون عزمهم على القضاء على جميع الفصائل المسلحة، باستثناء قوات الحماية الكردية وحليفاتها، الهجوم الأخير على جبهة درعا يضرب فرضية وجود حدود مرسومة مع الإدارة الأميركية التي يُشاع أنها تتحكم بالجبهة الجنوبية من جهة الأردن. على أية حال، مستوى «القلق» الذي يعبّر عنه ناطقون باسم السياسة الأميركية ينبئ بعدم وجود اعتراض أميركي جاد على النهج الروسي، مع التنويه بأن الدعم الأميركي المعلن اقتصر أيضاً في الآونة الأخيرة على قوات الحماية الكردية.

 

 

إذاً، مهما كانت حصيلة تصنيف المنظمات الإرهابية في سورية، يُرجح بقاء التصنيف نظرياً، بينما تستمر الآلة العسكرية الروسية في التعامل مع كل الفصائل بوصفها إرهابية. النتيجة المأمولة معلنة، وتتلخص في الإبقاء على نظام بشار الأسد، من دون الفصل بين النظام ورأسه. القناعة بعدم الفصل تتعزز دولياً، لأن بنية النظام لا تحتمل البقاء من دون رأسه، الحديث عن عدم تكرار تجربة صدام والقذافي يضمر التأسف على إزاحتهما أكثر مما يوحي بخيار ثالث.

 

 

وتيرة التقدم الروسي على الأرض لا تشير إلى حسم قريب، أو متوسط الأمد، لكن الأكثر تضرراً منها ستكون الفصائل المصنّفة ضمن معسكر الاعتدال. خريطة المعارك العنيفة مؤخراً تدل على أن أولوية موسكو والنظام هي استرجاع المناطق التي تسيطر عليها هذه الفصائل، على أمل رسم خريطة ميدانية جديدة تنقسم بين النظام والتطرف فحسب، ومن ثم وضع السوريين والعالم أمام المفاضلة بينهما. المهمة الروسية لا تلقى مقاومة دولية وإقليمية ملموسة، ومن الناحية الدولية ظهرت مؤخراً ملامح تعويم «القطب» الروسي، هذا يعيدنا إلى أسوأ ما في مرحلة القطبين، ويتجلى في انتعاش الديكتاتوريات في العالم بذريعة تقاسم النفوذ الدولي.

 

 

وإذا كانت نهاية الحرب الباردة قد أذنت بانقضاء حقبة من أنظمة الاستبداد في العالم، بما فيها بعض الأنظمة المدعومة غربياً، فإن بعث القطب الروسي ينذر باتجاه معاكس.

 

 

من جهة أخرى، كذّب الروس الفرضية التي تنص على أن تدخلهم سيخفف من وطأة الاحتراب المذهبي في المنطقة، فالطيران الروسي يعمل بتنسيق تام مع الميليشيات الشيعية على مختلف الجبهات، والاختلاف الروسي الإيراني إذا وجد ربما ينحصر في العامل الإسرائيلي. في الواقع، ثمة مظلومية سنية تتجدد وتتجذر، مستندة إلى إرث يتفاقم من القضايا الخاسرة أو التسويات غير العادلة. مع نهاية العام، أصدرت «رابطة أهل العلم في الشام» دعوة إلى الجهاد في سورية بعدّه فرض عين على كل مسلم، لا يستوجب إذناً من الوالدين، أي أن سورية مقبلة على مواجهة طاحنة لا على تسوية تكاد تقتصر مقدماتها على الترويج الإعلامي.

 

 

بالطبع، ميزان القوى يميل بقوة لمصلحة «التحالف الدولي زائداً روسيا وإيران»، وإذا سارت الوقائع كما يشتهي كل طرف من الأطراف المذكورة ستنتهي دولة «داعش»، ويستعيد نظام بشار السيطرة على معظم الأراضي السورية، ولو اقتضى ذلك تسويتها بالأرض بمساندة الطيران الروسي.

 

 

هذا هو الجزء الأول من الجحيم، لكن نتائجه لن تتوقف عند هذا الحد، فالإرهاب المقبل من الحدود سيرحل في اتجاه معاكس، بل في اتجاهات متفرقة عدة لن يسلم منها الكثير من الدول، وفي مقدمها الغرب. الحديث هنا عن حوالى ثلاثين ألف مقاتل أجنبي، على أقل تقدير، لن يُقتلوا في الساحة السورية، وقد لا يُقتل منهم إلا نسبة قليلة بينما يتمكن الباقون من المغادرة ومعاودة النشاط على أرضية أصلب من الإحساس بالمظلومية.

 

 

من ناحية المقاتلين السوريين أيضاً، المتطرفين منهم والمعتدلين، لا يُستبعد أن تفرض الضرورة عليهم تكتيكات جديدة يكون الإرهاب ركناً أساسياً منها. انقضاء تجربة «المناطق المحررة» لا يعني تلقائياً رمي السلاح، تحت طائلة التعرض للعقوبة من النظام أو قبول تسوية مجحفة تبقيه. مع فائض السلاح الفردي والخفيف، الاحتمال الأقرب إلى المنطق أن ينتشر العنف تدريجياً في أماكن لم تغادر أصلاً سيطرة النظام، بسبب رفع الحدود المرسومة حالياً. لا يُستبعد أيضاً أن يعزز الإبقاء على النظام ميلاً انتحارياً لدى خاسرين فقدوا الأمل في الانتصار، وهذا يعني فقدان الجدوى من أية احتياطات أمنية.

 

 

علاوة على ذلك، كان مؤملاً أن يقدّم سقوط النظام العزاء والسلوى لملايين المتضررين من حربه عليهم، الإبقاء عليه يعني الإبقاء على فكرة الانتقام وأخذ الحق باليد مباشرة، ما سيفتح الباب على عمليات ثأر تطاول الآلاف من عناصر الأمن والشبيحة وربما قياداتهم.

 

 

ثم إن المحاولة الدولية لإبقاء بشار، أو السماح له بأن يكون شريكاً في المستقبل، تقدّم الذريعة لمختلف أنواع الإجرام والإرهاب في العالم، ولن يشعر كثيرون بأنهم يتجاوزون العدالة إذا نجا منها من أباد مئات الآلاف. هذا قد يعزز الإحساس بالمظلومية العامة، أي الإحساس بأن العالم يفتقد للعدل، وقد لا يتوقف الأمر عند المظلومية السنية العتيدة.

 

 

مع ذلك، ليس مؤكداً نجاح العدوان الروسي في الدفع إلى تلك الخاتمة، قبل أية نهاية من المرجح أن تشهد السنة الجديدة على الأقل حرب استنزاف شرسة. المؤشرات كلها تدل على عدم وجود نية حقيقية لمكافحة الإرهاب بدءاً بمسبباته، وإذا أخذنا التصريحات الدولية الكثيرة، التي كانت تربط الإرهاب ببقاء بشار، فالتراجع الدولي الحالي إزاء فكرة بقائه تعني قبولاً بما يتبع الفكرة من تزايد الإرهاب. مشكلة من ينظّرون لبقاء بشار بأنه الأقل سوءاً، مقارنة بالإرهاب، ظنهم أن هذا الحل سيكون على حساب السوريين فقط. هؤلاء لا تهمهم مطالب السوريين، التي كان قسم منها يتعلق برغبتهم في أن يكونوا جزءاً من العالم الواسع، لكن لا يكفي أن يدير العالم ظهره لهم ليكونوا غير موجودين، أو ليدفعوا الثمن بمفردهم إلى ما لا نهاية.