يستمر لبنان من فترة الى اخرى في توليد أزمات سياسية تعكس واقع المنطقة والاقليم. ولطالما كان لبنان ساحة صغيرة لواقع المنطقة ككل لتصفية حسابات اقليمية على حساب الطرف المحلي فيتهدد سلمه ويهتز عرش أمنه. ولطالما سمعنا بمصطلح القضية اللبنانية الذي يتم تداوله في أروقة الديبلوماسية العالمية. لكن هل أصبح لبنان قضية؟ وهل وصل إلى هذا المستوى من الخطر والحساسية؟ إذا أجبنا بالايجاب فهناك مشكلة كبيرة تتعلق بالمصير والكيان، لأنه عندما تعالج مسألة بأدبيات "القضية" ومفرداتها فالأمر ينذر بالخطر. لا يستطيع احد ان يتجاهل الدور الخارجي للازمات التي عصفت وتعصف بلبنان ولكن في نفس الوقت لا يمكن تجاهل ان الطبقة السياسية في لبنان كان اسهل تبرير لفشلها في إدارة الدولة هو رمي التهم على الخارج وبالتالي لا يمكن حصر الموضوع بالعامل الخارجي. الأزمة وليدة لبنان، الأزمة تتوقف على اجابات عن أسئلة كبيرة تطرح. في الماضي كان السؤالين الأساسيين: أي لبنان نريد، لبنان العربي أو لبنان المنفتح على الغرب والمنسلخ عن محيطه أي لبنان الفينيقي؟ والسؤال الاخر، هو مسألة الحياد اتجاه قضايا المنطقة خصوصا فلسطين،فهل لبنان مهتم بها او حيادي اتجاهها؟ وللإجابة عن هذين السؤالين حصلت حرب أهلية انتهت بنهائية الكيان اللبناني ضمن مسار الصراع العربي الاسرائيلي. الاجابة جاءت كحل وسط او هكذا تبدو. اليوم تطرح اسئلة تتجاوز وجه لبنان لتصل الى كيان لبنان ومكوناته والاخطر العلاقة المصيرية بين هذه المكونات. فأي كيان للبنان نريد؟ ما هو دور المسيحيين فيه؟ ما هي العلاقة التي تربط بين المكونين المسيحي والاسلامي؟ آسف لقد أخطأت، اليوم تغيرت المعادلة وأصبح السؤال بهذه الطريقة التالية مناسب أكثر وهو: ما هي العلاقة بين المكونات الثلاث الماروني والسني والشيعي؟ نعم بين 1975 واليوم تغيرت فاعلية المكونات وشكل العلاقات ومنظومة المكونات وآليات عملها. قد يكون اتفاق الطائف "المظلوم" إحد أسبابه وساهم في تكريس هذا الواقع، أقول ربما، وقد تكون المنظومة الاقليمية قد تغيرت وهذا صحيح أيضا،فإيران اليوم احد مكونات وأقوى مكونات هذه المنظومة وقد أعطي طابع الصراع بعدا مذهبيا بوجه السعودية قصدوا ذلك او لم يقصدوا. المشكلة اليوم أصبحت بالتفاصيل الصغيرة التي تطغى على المشهد العام وهذا تشويه وتعطيل للعمل الطبيعي لمسار أي سياسة أو حكم. فهل نحن جبرا كلبنانيين مكلفيين بدفع فواتير الخارج في كل صراع يمر فيه الخارج؟ هل هذا قدرنا أو مصيرنا المكتوب والملزمين به؟ ربما نعم. ولكن ربما أيضا يمكننا ان نخفف من وطأة هذا الخارج. لا أتكلم بالمثاليات لقد حصلت بالتاريخ، وأقرب مثال هو ألمانيا عندما تحررت من قيود التقسيم وتحولت من ساحة لتكريس واقع الحرب الباردة وتابعة لمحورين في آن إلى قوة إقتصادية في قلب أوروبا بعد أن توحدت. نحن لسنا ألمانيا، ولكن نستطيع أن نكون أفضل من واقعنا بكثير. ولكن كيف؟ بالإمكان الجواب على السؤال إذا أدركنا لب المشكلة. المشكلة الأساسية تكمن فينا نحن اللبنانيين. اللبنانيون منذ فجر ولادة الجمهورية يعانون من أزمة. أزمة الثقة بالشريك الآخر في الوطن. نحن كلبنانيين لا نثق ولا نطمئن للشريك في الوطن، ودعكم من خطابات الوحدة والتعايش فما هو للأسف إلا مسلسل طويل تضحك الطبقة الحاكمة من خلاله على الشعب. لا يوجد ثقة ولا يوجد طمأنينة ولا يوجد راحة اتجاه الغير. إننا لا نثق ببعضنا او تعودنا أن لا نثق ببعضنا وكما تعرفون تصبح العادة عرف في بلادنا ونحن لا نصدق الآخر عرفا وقانونا. غياب الثقة المشكلة الأساسية، فهي التي تجعل المسيحي والسني والدرزي والشيعي يستقوون بالخارج ل"تكسير رأس" الشريك في الوطن. وبعرف السياسة لا يوجد شيء مجانا. فالخارج يخدم إحدى المكونات كما تراها مصلحته هو لا كما يرى مصلحة هذا المكون وحتى لو كان على حساب مصلحة مكون آخر فيحصل إختلاف الذي يؤدي الى مشكلة أخرى فأزمة وقد تصل الى حرب أو تسوية ويتكرر المشهد عبر السنين والشعب وحده يدفع الثمن. الأزمة هنا عندنا قبل غيرنا،قبل ان نحمل الخارج تبعات مشاكلنا فلنحل مشكلتنا لنعالج ونصلح سلم قيمنا ونعزز ثقتنا ونغير نظرتنا الى الشريك المغاير أو المختلف. المشكلة نفسية وأخلاقية قبل أن تكون مادية وسياسية، هي عقد نفسية نتوارثها جيلا بعد جيل لا تربينا إلا على الكراهية والحقد وعدم الثقة بالشريك. إنعدام الثقة هو ما أفقد المواطن الإيمان بدور الدولة وأنتج إنتماءات طائفية وخارجية على حساب الوطن. وهو ما شوه معنى المواطنة وأضعف الثقافة المدنية وأفشل إلى اليوم قيام الدولة المدنية. وعليه، لا معنى ولا جدوى لنهائية الكيان اللبناني أو أي بحث في المصير والكيان قبل معالجة مشكلة الثقة وإلا سيبقى لبنان هو الأزمة ولا معنى لنقاش في أزمات لبنان.

 بقلم: هلال رميتي.