شكلت السنوات الخمس التي مرت على إحراق التونسي محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على البطالة وهدر الكرامة اللتين كان يعاني منهما، مثله مثل أعداد لا حصر لها من الشباب العرب، مسافةً زمنية مقبولة لتقييم الأحداث الجسام التي أعقبت حادث بلدة سيدي بوزيد وأفضت إلى زلزلة العالم العربي.

 

 

مكابر من لا يرى النهايات المريرة لثورات عربية جرفتنا الحماسة لها منذ أيامها الأولى وعلقنا عليها آمالا عريضة. لقد كانت نشوة لحظات ما بعد سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح وخروج ملايين السوريين لإعلان الثورة السلمية على نظام البعث الأسدي، معيقة للقدرة على التبصر في حجم المشكلات التي تخلّفها الأنظمة الساقطة وتلك الآيلة إلى السقوط.

 

 

بل كانت الفرحة برؤية الشعوب العربية تكسر، في ميادين القاهرة وبنغازي وتونس وصنعاء، «الاستثناءَ» الذي صُنفت على أساسه كنابذة للحكم الديموقراطي وللتعددية السياسية، تَحُول عمليا دون رؤية الآليات التي حملت هذه الأنظمة إلى السلطة في المقام الأول وفرضتها على أعناقنا طوال هذه الأعوام. سخرنا يومها من إفلاس مقولات التوريث وانعدام البديل و «القائد الضرورة»، ومن الاستخدام الغبي للقضية الفلسطينية في تبرير إمساك حكام فاسدين ومفسدين بالسلطة. ولم نتنبه إلى عمق التصدعات التي تغطيها هذه الأنظمة وحدة الصراعات التي تكبحها حيناً وتستفيد من تفاقمها في حين آخر.

 

 

فنظام مثل النظام السوري، بمرحلتي الأب والابن، كان راكم على امتداد خمسة عقود، خبرة هائلة في إدارة الصراعات داخل المجتمع السوري وتصريفها لمصلحته. لم يكن يتورع عن لبس أي رداء أيديولوجي أو سياسي، من الاشتراكية إلى القومية العربية والإسلام والنيوليبرالية، ما دام يخدم مشروعه الوحيد: الحفاظ على السلطة بأي ثمن.

 

 

إلغاء الداخل وافتعال الاضطرابات في الخارج القريب الضعيف والمفكك، والخضوع أمام الخارج البعيد القوي الأميركي والروسي سواء بسواء، كانت الوصفة التي اتبعها حافظ الأسد وأورثها إلى ابنه بشار. لكن عند اندلاع الثورة في سورية، بدا أن العنصر الملغى من المعادلة المذكورة يختزن من العنف والقهر ما يكفي للإطاحة ليس فقط بنظام الأسد، بل بكل الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة وكل مقومات الهيمنة السابقة.

 

 

كان انفجار الاحتقان كافياً لإلغاء «الدولة» في سورية إلى أجل غير معلوم. حصل أمر مشابه في ليبيا واليمن. أما في مصر وتونس، فكان من الأسهل العودة الى المسارات المألوفة بدلاً من المغامرة بنظامين يعودان بالفائدة على شرائح حسنة التنظيم ومتغلغلة في «مؤسسات القوة» والبيروقراطية النافذة.

 

 

هل يعني ذلك صحة مقولة «الاستثناء العربي» وأن من الأفضل بعد هذه الجولة الجهنمية التي نشرت الدمار من عدن إلى مصراتة ومن الموصل إلى سرت، العودة إلى الطريقة المريحة في الحكم بتسليم القياد إلى مجموعة عسكرية أو مخابراتية تتولى تقسيم الأرزاق على العباد وسياستهم وفق الهوية والعصبية والانتماء الجهوي والقبلي؟

 

 

يطرح السؤال أعلاه الذي يتكرر في البرامج التلفزيونية والمقالات الصحافية، من يعتبرون أنفسهم «حكماء» في مقابل «المغامرين» الخائبين والمهزومين. بيد أن هذه «الحكمة» تنطوي على عداء صريح ليس لحق الشعوب العربية في مستقبل أفضل وأكثر عدلاً وكرامة وإنسانية فحسب، بل لمجرد فكرة استحالة البقاء على هامش التاريخ والاكتفاء بتصدير ظواهر مرضية إلى العالم (مع التشديد على دور العالم في زرع بعض بذورها هنا)، على غرار «داعش» و «القاعدة» وما يعادلهما ظلامة وعدمية.