حبر كثير سيسيل حول الدقائق الست التي استغرقها المؤتمر الصحافي لولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان، معلنًا تشكيل تحالف دولي إسلامي عسكري لمحاربة الإرهاب هو الأكبر في التاريخ الحديث.

الإعلان المفاجئ، والمفاجأة باتت صفةً ملازمةً للحراك الاستراتيجي السعودي، كمثل إعلان عاصفة الحزم ثم عملية إعادة الأمل، جاء ليعلن بوضوح عن استعداد المسلمين لتصدر الحرب على الإرهاب. وتصدرها بالصفة الدولتية لا عبر الميليشيات، وبصفتها السنية لا عبر المكون الإيراني الشيعي.

فالميليشيات التي تفرخ في سوريا والعراق تحت مسميات محاربة الإرهاب وبرعاية مباشرة من المشروع المذهبي الإيراني، لا تقاتل بغية حماية أي شيء يتعلق بفكرة الدولة، أكان في سوريا أو في العراق، بل هي صاحبة مصلحة أكيدة في إدامة أسباب ضعف واهتراء الدول في هذين البلدين تحديدًا.

كما أن الصفة المذهبية للميليشيات المذكورة التي تدعي محاربة الإرهاب، أيًا يكن صدق ادعائها أو زيفه، تعزز من الطبيعة المذهبية للصراع وتمد «داعش» وغيره بأسباب التعبئة والتجنيد. فالإرهاب المنتحل للهوية السنية سيجد في شيعية من يتصدون له مادةً وافرةً لتمويه مشروعه وتحويله من مشروع شذوذ فكري واجتماعي وحضاري وديني إلى مشروع حماية مذهبية في مواجهة هجمة مذهبية مقابلة. والواقع أن مثل هذه السياقات تزدهر تحديدًا في العراق، حيث نجح «داعش» في إيجاد صيغة تعايش بينه وبين بيئة غير طاردة للتنظيم في الموصل، لأن هذه البيئة لا ترى في الحشد الشعبي قوة مكافحة إرهاب بقدر ما ترى فيها قوة عدوان مذهبي على أهل السنة في الموصل. وقد وثقت منظمات حقوق الإنسان في العالم حوادث مرعبة عن أعمال التنكيل وهدم البيوت وتجريف الأرزاق التي قامت بها الميليشيات الشيعية العراقية بعد «تحريرها» لبلدات عراقية سنية من سيطرة «داعش».

الإعلان عن التحالف بصفته الدولتية وبمكوناته ذات الأغلبية السنية يضع خلفنا الكثير من الأدبيات التي رافقت ولادة «داعش» والردود عليها. والأهم أنه يعبر بوضوح لا لبس فيه عن شجاعة «امتلاك المشكلة» بعد طول تردد وبعد صولات وجولات تبريرية لطالما اعترت الموقف الإسلامي من الإرهاب ومواجهته. الإعلان عن التحالف يؤكد أن الإرهاب هو مشكلة إسلامية أولاً ومواجهته مسؤولية إسلامية أولاً لأن ضرره وفساده يقع على المسلمين أولاً.

الدقائق الست ليست فقط إعلانًا عن تحالف عسكري غير مسبوق، بل هي إعلان باسم الغالبية العظمى من المسلمين، وباسم نحو ثلث سكان الكوكب، أن الإرهاب لا يحصل باسمهم، بل هو عدوان عليهم قبل غيرهم وعلى دولهم قبل دول الآخرين وعلى الإسلام نفسه قبل أي حضارة أخرى.

اللافت كان تأكيد الأمير الشاب، أن للمعركة بعدها الفكري والإعلامي، متجاوزًا الهدف التكتيكي المتمثل بمحاربة «داعش» أو أي تنظيم إرهابي آخر، إلى مواجهة الإرهاب نفسه منظومة فكرية فقهية عقائدية، وهذه معركة تأخرت كثيرًا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. يومها رمى المفكر الأميركي الأكثر إشكالية برنارد لويس في وجوهنا معادلة لم تبرد حرارتها حتى الآن ومفادها، أن «أغلب المسلمين ليسوا إرهابيين، لكن أغلب الإرهابيين مسلمون!». هذه المعادلة لا تزال تصح اليوم بل تزداد صحة، وهي تقع في قلب إعلان هذا التحالف وتشكل الدافع لأغلبية المسلمين أن يبحثوا عن الأسباب التي تجعل أقلية شاذة بينهم تشكل المساهم الأكبر في الإرهاب وتهديد أمن العالم وسلامته.

ليست مصادفة، ولا ينبغي أن تكون، أن القاهرة هي عنوان الزيارة الأولى للأمير محمد بن سلمان بعد إعلان ولادة التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب.

أولاً، لا يفوت المراقب أن التحالف يضم مصر وتركيا بين دوله، وهو إنجاز كبير للجهود السعودية لإجراء المصالحة بين القاهرة وأنقرة، وتفكيك رواسب ملف الإخوان المسلمين العالق بين دولتين إسلاميتين أساسيتين في الإقليم، لا يمكن في ظل اختلافهما التقدم جديًا في معركة مكافحة الإرهاب.

ثانيًا، وهذا الأهم أن الزيارة تبنى استراتيجيًا على «إعلان القاهرة» الذي صدر في الفائت بين مصر والسعودية، وأشر إلى الرهان الحاسم على إعادة هندسة البنيان الاستراتيجي العربي الذي لا يقوم قيامة حقيقية بغير الالتقاء السعودي المصري.

أعيد هنا ما كتبته يومها، في ضوء الإعلان اليوم عن التحالف الإسلامي العسكري لمواجهة الإرهاب. فالمملكة هي مكة والمدينة، ومصر هي الأزهر، عنوانا الإسلام كمهد وكمؤسسة، وهذا ليس تفصيلاً. إن ثنائية «مكة – الأزهر» ليست أقل من القوة الرافعة لمشروع ثقافي إعلامي وسياسي لتجفيف منابع الإرهاب وتنقية الإسلام من القراءات والنصوص المؤسسة لفقه الجريمة كما لمعالجة أسباب الشقاق المذهبي الذي تستغله إيران في سياسة الاختراق السياسي والمجتمعي والأمني في الدول العربية.

لمَ لا يكون ثلاثيًا: مكة، الأزهر، إسطنبول؟!

إعلان التحالف العسكري خطوة جبارة وشجاعة، لا بد من استكمالها الجاد والمثابر والعميق، بالحرب الإعلامية والفكرية التي أعلنها الأمير محمد بن سلمان، في الدقائق الست الأهم في تاريخ الحرب مع الإرهاب.