بعد الأنباء عن المحادثات بين ايطاليا واسرائيل بشأن تعاون واسع قد يشمل نقل الغاز الإسرائيلي والقبرصي الى اوروبا، علاوة على ما يُشاع حول احتمال مشاركة شركة «إيني» في استثمار حقلَي «كاريش» و «تانين» على مقربة من المنطقة البحرية المتنازع عليها مع لبنان، سارع أعضاء في «هيئة البترول» لزيارة بعض المسؤولين كما بعثوا برسائل للبعض الآخر بغية «التنبيه» من خطر إقدام اسرائيل على شفط البترول والغاز من المكامن اللبنانية. وهذه المرة أيضاً، انتهز أعضاء الهيئة نفسها المناسبة لحث ذوي الشأن على التعجيل في إقرار مشروعي المرسومين المجمّدين وفي إبرام عقود تنقيب وإنتاج مع الشركات الأجنبية، بحجة منع إسرائيل من السطو على ثرواتنا. وإن كان من المسلمات أنه من الضروري اتخاذ كل التدابير اللازمة لحماية حقوقنا براً وبحراً، فمن الضروري ايضاً تمييز الخيط الأبيض عن الخيط الأسود وعدم استعمال الخطر الإسرائيلي للتمويه ولتغطية أخطاء ومطامع محلية أخرى لا علاقة لها بإسرائيل، كما تدل على ذلك الحقائق التالية:
ـ الحقيقة الاولى هي أن النزاع على ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل يعود لخطأ تقع مسؤوليته، للأسف، على الوفد اللبناني الذي وقّع اتفاقاً على رسم خط حدودي أعوج مع قبرص، ومن ثم مع فلسطين المحتلة، اضافة الى أن بعض أعضاء هذا الوفد قد أصبحوا فيما بعد مسؤولين في «هيئة إدارة البترول» التي عادت من جديد لتقرع الطبول ضد الخطر الإسرائيلي! أما الادعاء بأن مجابهة هذا الخطر تكمن في إبرام اتفاقيات على أساس بنود مشروعي المرسومين العالقين، أي شروط استثمار هي من الأسوأ في العالم بالنسبة لنا، فهو نوع من التضليل الذي ينطوي على علاج داء قائم بدواء أوسع وأعمق وأشد فتكاً، خاصة أن الموضوعين يختلفان كلياً من حيث الأسباب وطرق المعالجة. كما ان الخطأ نفسه قد يكلف لبنان غالياً في حال العثور على مكامن تحت المياه المشتركة بين قبرص ولبنان ونشوب نزاع آخر بينهما.
ـ الحقيقة الثانية هي أن الخطر الإسرائيلي لا يقتصر على نهب ممكن لجزء من موارد البترول والغاز، بل تعدّى ذلك خلال السنوات القليلة الماضية إلى وضع اليد على نتائج المسوحات التي تمّت في المنطقة الاقتصادية الخالصة، ثم على جزء من المناطق البرية. هذه النتائج وما تتضمّنه من معطيات علمية تسمّى في صناعة البترول «الذهب الأسمر» الذي يسمح بمعرفة مكامن «الذهب الأسود»، ما يعطيها قيمة اقتصادية وتجارية ذات اهمية قصوى، ويجعل منها بالنسبة للشركات البترولية وبلدان العالم كلها سراً حقيقياً يُحاط بأشد ما يمكن من الكتمان، باستثناء لبنان بعدما أدى سوء الإدارة لتبعثر هذه المعطيات خارج الحدود، من خلال معالجتها في بلدان أجنبية، كما سبق وأشارت وسائل الإعلام المحلية منذ بضعة أشهر، أو من خلال تسليمها لمؤسسات أوروبية وأميركية، مما يضعها تلقائياً في متناول إسرائيل. هذا صحيح بالنسبة لنتائج المسوحات الزلزالية التي غطت القسم الأعظم من المناطق البحرية، كما أنه صحيح فيما يخص المناطق البرية التي قامت بمسحها مؤخراً شركة N.E.O.S بعدما اتخذت شريكاً لها الشركة اللبنانية «بتروسرف» التي أسست خصيصاً لهذا الغرض العام 2012 من قبل افراد لبنانيين لا خبرة لهم على الإطلاق في هذه التقنية. ومن المعروف أن N.E.O.S توقفت فترة عن العمل بحجة أن مجلس الوزراء تأخر في إقرار المرسومين المذكورين. أخيراً، ثمة علامة استفهام كبيرة حول مبررات اختيار شركة N.E.O.S هذه من دون غيرها من الشركات الأخرى المعروفة، اذ انها شركة حديثة، عمرها قصير وتجربتها أقصر، يديرها ويسيطر على القسم الأكبر من رأسمالها جوناثان فيمن، الذي كان يملك شركة «أوكادو» لتوزيع المواد الغذائية على الإنترنت في انكلترا.
ومن اللافت ايضاً ان العقود الخاصة بالمسوح البحرية والبرية على السواء قد تمّ توقيعها من قبل السلطات المختصة من دون استدراج عروض من شركات اخرى، وأنها كلها عمليات تجارية رابحة بامتياز. فنتائج المسوح البحرية تم بيعها لشركات بترول عالمية بقيمة ناهزت 140 مليون دولار، من أصلها قرابة 30 مليون دولار تكاليف و35 مليون دولار حصة مبدئية للبنان (لم يُعرف حتى الآن كيف تم التصرف بها)، وحوالي 75 مليون أرباح تعود للشركات المتعاقدة والوسطاء. كذلك الأمر لعملية المسح البري التي لم تكلف أكثر من 6 ملايين دولار، في حين أن الربح الصافي المرتقب يقدر بحوالي 50-60 مليون دولار توزع بنسبة الثلث للدولة والثلثين للمتعاقد الأجنبي والسماسرة. هذا كله يعني انه بانتظار التأكد من وجود البترول وأن يرى المواطن لون دولار واحد، فقد بدأ البعض بتقاسم الغنائم وراء الستار! هذه كلها تصرفات هي أقرب ما تكون الى الصفقات التجارية والسمسرات، وأبعد ما تكون عن المصلحة العامة واحترام حقوق اللبنانيين.
ـ الحقيقة الثالثة والأهم هي أن الآتي سيكون حتماً أخطر أضعافاً بأضعاف ما رأيناه حتى اليوم في حال نجحت مناورة التلويح بالخطر الإسرائيلي لابتزاز إقرار المرسومين العالقين، من دون تصحيح ما ينطويان عليه من انحرافات وثغرات لا مثيل لها في أي بلد نفطي آخر. هذه الانحرافات والثغرات التي سبق التأكيد عليها بإسهاب، ومن دون جواب حتى الآن، تتمثل خاصة في النقاط التالية: مشاركة فعلية للدولة لا تقل عن 40 في المئة في عقود التنقيب والإنتاج عبر شركة وطنية، وتعديل البنود الخاصة بأسلوب المزايدة لتحديد نصيب الدولة من الإنتاج او نسبة استرداد التكاليف، وآلية مراقبة النفقات، ونسب أتاوة تتماشى والمعايير العالمية، الخ... هذا علاوة على إصدار قانون ضريبي خاص للبترول والغاز وإعادة النظر في هيكلية تنظيم قطاع الطاقة، بما في ذلك صلاحيات واستقلالية «هيئة البترول»، فضلاً عن محاسبة المسؤولين عن إقحام «شركات» لا وجود إلا على الورق في لائحة الشركات المؤهلة للحصول على حقوق تنقيب وإنتاج!
هذه كلها أمور لن تتم إن لم تؤمن الشفافية اللازمة عن طريق حوار عام وشفاف حول النصوص التشريعية التي ما زالت طي الكتمان، حوار صريح تشارك فيه الجهات الرسمية المعنية والجامعات ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام وغيرها من ممثلي المجتمع المدني. شرط آخر لا بدّ منه هو التعاون مع إحدى المنظمات الدولية المختصة في ضمان الشفافية وسن قانون خاص بمكافحة الرشى والفساد في قطاع البترول والغاز. حوار وطني وشفافية لا مفر منهما، كما تشير افتتاحية مجلة «المركز الوطني للدراسات» في عدد كانون الأول 2015، لتفادي «المخاطر الماثلة أمامنا والاستعداد لموجهة تسونامي النفط القادر على ابتلاعنا جميعاً».