تسلُّط جماعة شمولية على خيارات الناس ليس مظهره الأبرز تسليطها أجهزتها الأمنية والسلطوية على أنماط عيشهم وعلى ميولهم، إنما يكمن أيضاً في إقناعهم بأنّها تملك السلطة الاجتماعية، وأن خروجهم عليها هو خروج من إجماعات جوهرية تتعدى السياسة.

 

 

ينجم عن هذا النوع من التسلّط صمت رهيب، يُدرك أصحابه أنّهم صامتون عن الحق، لكنّهم يعتقدون بأنهم لا يقوون عليه. على هذا النحو مثلاً يُمارس كثيرون من أبناء الطائفة الشيعية في لبنان صمتاً رهيباً على وقائع يومية تمارسها سلطة الأمر الواقع عليهم، أي "حزب الله". وعلى هذا النحو أيضاً يمارس عرساليون صمتاً رهيباً على وقائع موازية تمارسها في بلدتهم جماعات سنّية متشددة.

 

 

الصمت في الحالة اللبنانية لا يعود فقط إلى إرهاب السلطة للجماعات الأهلية والأفراد، إنّما أيضاً لشعور أفراد في هذه الجماعات بأنّ خروجهم عن الصمت سيوظّف في مصلحة الخصم الطائفي.

 

 

فأن يُشهر عرسالي أنّ لـ"جبهة النصرة" سلطةً ما في بلدته وأنّها تدير منها عدداً من الملفات، فهذا ما سيخدم "حزب الله". وأن يُشهر شيعيٌ تذمّره من توسّع سلطة الحزب لتشمل معاملات مسح الأرض في القرى الجنوبية، أو أن يبوح لصديقه غير الشيعي بأن مسؤولاً كبيراً في "حزب الله" يرتدي ساعة "pateck Philippe"، فهذا ما سيرتّب أيضاً احتمال أن يوظّف غير الشيعي تذمّر صديقه في صورة عن الحزب تسعى الطوائف الأخرى لتقديمها عنه.

 

 

والحال أن سلطة الجماعات الأهلية تستعين بهذا الصمت لتبثّ مزيداً من الرهبة في رعاياها. فلطالما لوّح "حزب الله" لخصومه الشيعة بالعزلة الاجتماعية بصفتها وسيلة ضغط ناجعة، يُسرب خبراً لمن يسعى لمحاصرته بأنه غير راضٍ عن "الحصار الذي يضربه الناس عليه، لكن ليس باليد حيلة"، وأن الناس تتصرف من تلقائها، وليس بتوجيه منه.

 

 

ومؤخراً دخلت وسائل التواصل الاجتماعي على ترسانة الحزب على هذا الصعيد، وللحزب على هذه الشبكات أسماء ووجوه يعرفها الجميع، لكنه متخفف من تبعات أفعالها، ذاك أن أصحابها من غير الجهاز الرسمي للحزب.

 

 

يصح ذلك على "حزب الله" أكثر مما يصح على غيره، فالحزب سلطة متبلورة على نحو أوضح وأمتن في مجتمعه، لكن ذلك لا يعني أن الجماعات اللبنانية الأخرى لا تسعى الى بلورة نفوذ على "أهلها" موازٍ ومشابه لنفوذ "حزب الله" على "أهله". ولطالما يلمس المرء أن خصومة الجماعات الطائفية الأخرى لـ"حزب الله" تأتي مترافقة مع إعجاب به وبسلطته. في باب التبانة مثلاً وخلال جولات القتال، لطالما عبر المقاتلون السنة عن رغبتهم بسلطة لطائفتهم تشبه سلطة "حزب الله" على طائفته.

 

 

بالأمس أطل محاميان مسيحيان عونيان على شاشات التلفزيون وطالبا الكنيسة بإصدار حرم كنسي على ثلاثة نواب موارنة بسبب طعنهم بقانون تقدم به الوزير جبران باسيل. المسيحيون انضموا إذاً إلى نادي المعجبين بالسلطة غير الخفية للحزب. الحرم الكنسي، هو نفسه تلك العصا التي تُرهب فيها جماعات السلطة الأهلية رعاياها، وهو نفسه مسؤول الحزب حين يُسر لخصم الحزب بأن عليه أن يراعي "مشاعر الناس".