يتحدّث سماحة العلامة المفكّر الاسلامي السيد محمد حسن الأمين عن المذاهب ونشأتها وسيطرتها على الساحة الدينية في عصرنا الحالي، فيقول: "تختلف النظرة إلى المذاهب المتعدّدة في الإسلام اليوم والنظرة إليها عند نشأتها، فهي تبدو في وضعها الحالي وكأنها أطر جامدة وغير قابلة للتغيُّر، بل يبدو المذهب وكأنه دين ذو نصوص مقدسة".

 

يشرح السيّد الأمين البواعث التاريخية والفكريّة التي أدّت الى نشأة الأديان بقوله ” انه في الوقت الذي نعرف فيه أن المذاهب نشأت بوصفها صوراً وأشكالاً من أشكال الاجتهاد في النصوص الإسلامية التي يقدسها الجميع ولكنهم عندما اتسع نطاق الحياة بدأت تظهر الاختلافات في الاجتهاد، أي نفسير هذه النصوص المعترف بها لدى جميع المسلمين، فكان الاختلاف شأناً بشرياً طبيعياً، وهو كما يحصل في أية عقيدة فكرية او اجتماعية او دينية، اذ تتعدّد الاساليب في قراءة النصوص وتفسيرها، وهو ما أدّى الى إنتاج علم الفقه في الاسلام، والاجتهاد، وقد أدى هذا النوع من الاجتهاد إلى بروز عدد من الاتجاهات الكلامية والفقهية الناجمة عن تعدد الآراء والاجتهادات بين الفقهاء الكبار، وهذا كان في القرن الثاني والثالث هجري، وأنقسهم المسلمون إلى فرق متعدد تختلف في تبني فريق منها لأي كل واحد من هؤلاء المجتهدين والذين أصبحوا يسمون بأئمة المذاهب. وقد تبنت السياسية بصورة عامة تكريس عدد من المذاهب وعدم جواز تجاوزها أو الاجتهاد في مقابلها، كمذهب أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، وهم ليسوا أكثر من فقهاء متميزين، ولكن هم أنفسهم كما ورد على لسان أحدهم أو على لسان أحد أتباعهم، كانوا يقولون عن السلف بأنهم رجال، أي لهم آراؤهم ونحن رجال يحق لنا أن يكون لنا آراؤنا”.

ويرى السيّد الأمين ” أن سيادة المذاهب واختصارها للمفهوم الاسلامي الانساني العام والجامع، هنا أستطيع القول في ظاهرة صعود الخلافات المذهبية هو مظهر جوهري من مظاهر التخلّف والبؤس الفكري وانكماش المعرفة وعدم استعادة الدور الطبيعي للعقل على حساب التقليد والخرافة اللتين ينتجهما الجهل والأميّة، وهي مع الأسف سمة من سمات جزء كبير من العالم الثالث الذي يكوّن المسلمون جزءاً كبيراً منه، فأنا أزعم أن الصراعات المذهبية تتضمن نقصاً في الوعي العام بالدرجة الأولى وهو نتيجة للتخلف الفكري والسياسي والمتصل بقيمة الفرد وأهميته، وعدم التمكن من متابعة منجزات العصر سواء في العلوم الإنسانية أو في العلوم التطبيقية وكذلك في انسداد آفاق الحرية لدى هذه المجتمعات للاعتبارات السياسية ذات الطابع الاستبدادي والتي تعتبر أن إشاعة المعرفة يكمن فيها خطر على التراتبية السياسية والاجتماعية في المجتمع العربي الإسلامي وأن قيادة الشعوب الجاهلة أيسر من قيادة الشعوب المستنيرة بمناهج المعرفة، والمعرفة في جوهرها ليست مقصورة على فريق من هذا العالم دون فريق آخر، وطلب المعرفة، أي العلم، والعلم هنا لا يقتصر على علوم الدين، هو فريضة على الأمّة كلها، ملخصاً بالقول أن مجتمعاً لا يمتلك الغنى في الاتجاهات الثقافات الفكرية ومناهج التنمية، ولم توجد لديه مجالات معرفية تستحق الاختلاف والانقسام حولها سواء كانت تنتمي إلى العلوم الإنسانية أو التطبيقية، فإن مجتمعاً فقيراًيمثل هذه الحواضر، سوف يذهب إلى مكوناته التاريخية ومنها الدينية ليكون الجدل والصراع دائراً في إطرها حول الماضي، وليس في إطار نظريات تستوجبها موجبات التقدم والنمو السياسي والعلمي”.

والخلاصة في هذه المسألة كما يقول السيّد الأمين “هي أن هذه المذاهب تشكل دليلاً واضحاً على ازدهار التفكير وانفتاح مجال التعدُّد والاختلاف بين الفقهاء بما يعطي لهذه الظاهرة طابعها الإيجابي، أما تحوّلها فيما بعد إلى مذاهب منغلقة ونهائية فهو مظهر من مظاهر انحسار دور الإبداع في الفكر الإسلامي وسيادة نهج الاتّباع، ونلاحظ أن بعد قيام هذه المذاهب توقفت إلى حدّ بعيد ظاهرات التجديد والإبداع في الفكر الإسلامي عموماً بما يشمل مادة الفقه نفسها، دون أن نستثني بعض الظاهرات الإيجابية التي استمرّت في مسيرة الإبداع التجديد والإيمان بحق الاختلاف ومحاولة تقديم آراء فقهية جديدة مدركة لطبيعة التغيُّر الحاصل في المراحل التاريخية المتقدمة وضرورة ربط العلوم الفقهية بهذه المتغيّرات، وبرأيي فإن التحرّر من العصبيات المذهبية يبدأ من هنا، أي من انتزاع الطابع المقدس على فقه السلف الصالح وإعمال الاجتهاد من جديد، في إنتاج فقه إسلامي يتناسب والحاجات المستجدة المختلفة عما كان في العصور السابقة، والحقيقة أن هذا هو ما فعله أئمة المذاهب والفقهاء الكبار في تلك العصور، فإنهم لم يجمدوا عند إداء تشريعات من سبقهم، بل وقفوا منها موقف النقد والاختلاف.
فالاجتهاد هو مشروع دائم لا يتوقف في زمن من الأزمنة، ما دامت العقيدة الإسلامية تقوم على أنّ الرسالة الإسلامية ورمزها الأكبر الذي هو القرآن الكريم يتضمنان القدرة على التفاعل مع كل الأزمنة والعصور”.