ليس الجهل نوعا واحدا  ,  بل قد يكون الجهل علمُ غير الحقيقة , أو قد يكون مجرد حصول صورة الاشياء في الذهن ويبقى جهلا , فليس صحيحا أن الجاهل خالٍ من الصور في ذهنه  فثمة فرق بين فَقِهَ الشيء وبين علم الشيء , لأن الفقه هو علمٌ  مع معرفة ما علم ,  فيقابل الجهل أي عدم المعرفة , والعلم هو حصول صورة الشيء في الذهن , وهذا الحصول ليس بالضرورة أن يكون معرفة , لأن صورة الاشياء تحصل في ذهن الاطفال والمجانين ولا يميزون بينها , فيبقى الجهل جهلا , وقد يكون الجهل مركبا عندما يعتقد الجاهل بأن ما يعلمه هو حقيقة , ولا يعلم أنه جاهل به , وفي الواقع هو ليس حقيقة  فيكون جاهلا بأنه جاهلٌ وهذا من أصعب الجهل وأخطره .

 

 وأشار علماء المنطق إلى الفرق بين الجهل البسيط والجهل المركب بأن صاحب الجهل البسيط يعلم أنه جاهل، ولا يزعم أو يظن لنفسه أنه عالم، بخلاف صاحب الجهل المركب فإنه مع جهله يظن أنه عالم، فجهله مركب من جهلين: الجهل بالشيء، والجهل بأنه جاهل به .

 

فكثير من الناس تعتقد أنها تعلم الحقيقة , الحقيقة السياسية والحقيقة الدينية والاخلاقية والانسانية , وفي الواقع هي جاهلة بهذه الاشياء بامتياز ولكنها لا تعلم أنها جاهلة , فتدعي المعرفة وتمارس ما تعتقد لأنها مُصابة بجهلٍ مركّب .

 

دأبت السلطات الحاكمة المستبِدة تاريخيا على إبعاد الناس عن المعرفة والحقيقة , لأنهم إن فهموا وعلموا الحقيقة , طالبوا بحقوقهم , وبالتالي زاحموا المتسلطين على رقاب الناس , فلذلك تسارع السلطة وأجهزتها إلى بثّ معلومات خاطئة وأغاليط هدفها تجهيل الناس وإبقاؤهم على جهلهم بالحقيقة , لا يفهمون ولا يفقهون ولا يدركون , ويرددون ما تقوله السلطة , ويقبلون بالقليل الذي تقدمه لهم من إعانات ومساعدات , ويعتبرون ذلك منّة من الزعيم ولا يعرفون أنه من حقهم ومن واجب السلطة .

 

من خلال مجريات الاحداث التي تمرّ بها البلاد أدركت الشعوب شيئاً من علم السياسة وسلوكياتها , حيث أنها لم تكن تتعلم السياسة في المدارس , لأن السلطات المستبدة تاريخيا لم تكن تسمح بعلم السياسة وعلم الاجتماع السياسي , ولم يكن لهذين العلمين أي وجود في البلاد الاسلامية , إذ دخلا على الكليّات في بلادنا في زمن متأخر وهما علمان غربيان بامتياز , لأنهما يتعلقان بالسلطة وشؤونها , وهذا كان ممنوعا لأنه يُشكل خطرا على السلطة الحاكمة المستبدة .

 

أما الآن عادت السلطات المستبدة والاحزاب السلطوية إلى نفس الاسلوب التاريخي في تجهيل الناس وتعميتهم عن الحقيقة , بحجّة أنهم لا يدركون اللعبة السياسية , وهم أدرى من الناس بمصالحهم , وبالتالي بثوا الاكاذيب السياسية والمغالطات الدينية والاجتماعية والعلمية  مستعملين وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من أجل تعتيم الحقيقة والواقع على الناس , فسادت الفرقة وساد الاختلاف والتعصب الاعمى وعمّ الجهل المركب , هكذا إستطاع محترفو الالاعيب السياسية من السيطرة على عقول مَنْ جهلوهم من الناس البسطاء , وحولوهم إلى أدوات تسيّرهم السلطة كيفما تشاء .