اسمه ابرَهيم الجمل، عمره يزيد قليلاً على العشرين. ينتمي إلى البيئة البائسة التي أمّنت وقود التوتيرات الأمنية إن في لبنان أو في الجوار. أوقفه "فرع المعلومات" منذ أيام قليلة في طرابلس بتهمة محاولة تنفيذ عملية انتحارية بحزام ناسف، لو وقعت لأدّت إلى عشرات القتلى والجرحى من عسكريين ومدنيين، في ناحية متوسطة في محلة القبة بطرابلس، بين محلّتي بعل محسن وباب التبانة، وفي نقطة عسكرية تحت سيطرة الجيش اللبناني.
 

وابرَهيم ابن عائلة مستورة، فقيرة الحال، جاءت من إحدى قرى الضنية، وسكنت في منزل متواضع من غرفتين في محلة البقار، على تخوم نادي الضباط التابع للجيش اللبناني. مدخل النادي مواجه لمدخل البيت. الناس متعايشون مع الجيش، ويحبّونه ويتفاعلون معه، وكثيرون من أبناء المحلة منضوٍ في صفوفه. المنزل يقع في الطبقة العليا ومؤلف من غرفتين، وشرفة تطلّ على الشارع. مجلس جميل لمن يريد أن يحيا حياة طبيعية لو كتب له ذلك، لكن التوترات الأمنية التي شهدتها المحلة في فترات متقطعة ولعشرات السنين، منعتْ السكان من الحياة الهانئة والكريمة، ولم تتحْ لهم البحث عن بديل أفضل.

 

في هذا المنزل، اختار فيصل أن يبنيَ عائلته، يعمل سائق تاكسي، ينزل من الصباح الباكر قبل طلوع الشمس، يتنقل في أحياء المدينة، يبحث عن الركاب، ويعمل حتى ساعات متأخرة من النهار علّه يستوفي مالاً قليلاً لإعالة العائلة.

 

كيف يمكن لسائق أن يربي عائلة من عشرة أولاد، يعلّمهم، ويخرّجهم إلى مراتب مقبولة في الحياة، يسهر على تربيتهم، وإعدادهم لحياة أفضل، بينما يقتصر مدخوله على مدخول سائق تاكسي!

عشرة أبناء لفيصل يقول إنه ربّاهم بأفضل ما يستطيع، خمسة شباب وخمس بنات، تعلّموا في المدارس المتوافرة، والمهنيات، منهم الممرضة في المستشفى الحكومي، ومنهم العاملة في محل لبيع الثياب تتابع تعليمها في الوقت عينه، وشباب تخرّجوا مهنيًّا واحد منهم حداد افرنجي، وابنة تعاني من إعاقة عقلية.

المنزل بسيط، ووضيع الأثاث، لكنه نظيف ومرتب، وأبناء العائلة، بحسب ما يظهر على "حنان"، إحدى البنات، يهتمون بترتيب أوضاعهم الشخصية والمنزلية. وشباب الحي اشخاص عاديون يستقبلون الزائر بالترحاب، وبسعة صدر، ومن دون تعقيد، يتّسم به أبناء الأحياء الفقيرة.

في هذا الجو، ولد ابرهيم وعاش وتربّى، هؤلاء أهله، وأولئك رفاقه. يعلق أحدهم على ما جرى معه: "غريب امر ابرهيم. كان بيننا كواحد منا، نلهو معا، ونمضي الأوقات ببساطة. تغيّر وغاب ابرهيم، ولم نعرف عنه شيئًا".

يشير أحد اترابه إلى فتاة على الشرفة. تطل مبتسمة ابتسامة استقبال الضيوف اللائقة، وتستأذن الأهل قبل السماح بالصعود إلى البيت. تبدأ بالكلام عن شقيقها، كيف كان يعيش حياة اعتيادية، وفجأة بدأ يطلب مني وضع الحجاب وارتداء الثياب السميكة، ويدعوني إلى التديّن. تتساءل عن تحولاته، ولا تعرف السبب، وتستمرّ في وصفه مبشّرًا بالدين، وخطيبًا في المسجد. لكن مظهره ظلّ كما وصفه أصدقاؤه، يلبس الجينز، حليقًا، بلا لحية.

 

هي حنان (19سنة)، روت عنه أنه انقلب فجأة نحو التديّن الصارم، ولم نعرف كيف وصل إلى ذلك، ولا مع من تواصل، ولا من يؤثّر عليه.

فجأة، وفي اليوم الأخير من رمضان الفائت، اختفى ابرهيم، بحسب حنان التي أضافت: "تمكنت من التواصل معه، فقال لي إنه في تركيا، وقد سافر إليها بطريقة شرعية عبر مطار بيروت وكان يتصل احيانا من رقم سوري. "تمنّيت عليه العودة"، تقول حنان، و"حاولت إقناعه أن يُقلع عن مغامراته التي لا نعلم ما هي، ولا أين يمكن ان تصل. وتواصلت معه تكرار، إلى أن توقف التواصل معه".

من جيران العائلة رجل صديق لها منذ عشرات السنين، يملك محل للسمانة، يعرف عن الحي أكثر من أي شخص آخر، هو فواز حموضة، صديق الوالد فيصل.

يبدأ بالتحدث نيابة عن الوالد الغاضب والمقهور الذي لا يريد لابنه الخروج عن القانون، ويقول: "الأهل يتبرأون من ابنهم طالما قام بعمل سيّئ يخرج به عن القوانين المسموحة. ويجب أن تأخذ الأمور مجراها، وكذلك التحقيقات، ولو صح المخطط الذي أخبرتنا به الأجهزة الأمنية، فلم يكن من مانع أن يكون أحدنا ضحية من ضحايا العمل الذي كان سينفذه".

حموضة عرّف ابرهيم بالشاب المتروّي، وتّهم أجهزة و"أطرافًا ما" بتوريطه، مثلما ورّطت كثيرين سواه. يقول حموضة: "ليس هو من اختار هذا الطريق. من ورّطه يعرف إلى أين يهدف، في النقطة المناسبة، أي حيث الفقر والحرمان والفاقة. لقد استغلوا ابرهيم، وجرّوه إلى مخططاتهم بترغيب بالمال دون شك".

ويتابع: أهله لا يرغبون بهذا العمل على الإطلاق، وهم يرفعون الغطاء عنه، ويولون الأجهزة المعنية بالدولة، وبالقضاء، كلّ الثقة في التحقيق معه علنا ننتهي من هذه الأعمال التي لا تؤدّي إلا لمزيد من الموت والقتل".

 

ويتحدث حموضة عن ابرهيم "فتى ذي نخوة، يحب الخدمة العامة، وكان عنصرًا متطوّعًا في الصليب الأحمر اللبناني، يعمل على إسعاف الجرحى والمرضى، والتخفيف من آلامهم. اما كيف وصل للالتحاق بصفوف "داعش"، أو بناء علاقات معه، فهذا أمر مستغرب، ولا نعرف عنه شيئا، لكن الأمر يتعلق بطبيعة الحال بوضع ابرهيم المهمش والمزري، وحاجته للمال".

لا يتوانى والدا ابرهيم عن التحدث عن قصته، يشرحان معاناتهما معه. يقول والده فيصل: "عملت منذ أن كنت فتى يافعًا، وأنا الآن في الستين، على تأمين حياة معقولة، وأستمرّ بـ"السواقة" لكي أتمكن من تأمين ما تحتاجه العائلة. فجأة نتفقّد أحد الأولاد وهو ابرهيم، فلا نجده. غاب عنا في آخر يوم من رمضان الفائت، ولم يعد إلا قبيل عيد الضحى بقليل، ومكث في المنزل أياماً قليلة معدودة، إلى أن عاد واختفى ولم نعرف عنه شيئا، وكانت تحركاته وتصرفاته كلها عادية في الأيام القليلة التي أقامها في المنزل".

 

يواصل فيصل كلامه بقلب مجروح على مصير ابنه: "لا يمكن أن نغطي هكذا أعمال. ومهما كان العقاب القانوني فنحن معه، ومع السلطات في كل ما تراه مناسبا لمصلحتنا، ومصلحة البلد".