كان يجب أن يعرف اللبنانيون عموماً أن تجاوزهم الانتماء إلى وطنهم بالانتماء إلى العروبة وإلى الفينيقية والإسلام والمسيحية والمذهب السنّي أو الشيعي أو الدرزي، كان يجب أن يعرفوا أن هذا التجاوز سيُضعف وحدة بلادهم بل سيمنع وحدتهم وسيقسِّم دولتهم بمؤسساتها وأرضهم. وقد حصل ذلك أيام الحروب في لبنان بين 1975 و1990. كما سيدفع كلّاً منهم إلى الارتهان لجهة إقليمية أو دولية تماثله في الانتماء أولاً للدفاع عنه، وثانياً لتمكينه من التغلُّب على الآخرين وحكمهم بالقوة، وثالثاً لرعاية إنشاء كيان خاص به مستقِل أو متمتِّع بحكم ذاتي أو بلامركزية موسّعة في إطار فيديرالي. ومن شأن ذلك جعلهم كلهم أدوات يستعملها "حلفاؤهم" الخارجيون في حروبهم وأحياناً رغماً عنهم.
وكان يجب أن يعرفوا أيضاً أن حقوقهم كبشر وكمنتمين إلى ديانات ومذاهب مختلفة وإتنيات مختلفة تحميها دولة تطبِّق القوانين، ومؤسسات غير مُطيّفة أو مُمذهبة تعتمد الكفاية للتوظيف وليس أي اعتبار آخر. وكان يجب أن يعرفوا ثالثاً أن الدستور لا "يُلعب" به كلما قضت مصلحة زعيم أو طائفة أو دولة خارجية فاعلة في لبنان. ولا يعني ذلك أنه مقدّس، بل يعني أن الاستقرار الدستوري يؤمّن الاستقرار القانوني فالاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي. كما يعني أن تعديله وفق نصوصه ممكن إذا قضت المصلحة الوطنية بذلك من أجل تعزيز الانتماء للوطن وتحسين عمل المؤسسات وزيادة منعة البلاد. وكان يجب أن يعرفوا رابعاً أنهم معنيون بمحيطهم الجغرافي وبالحفاظ على استقراره، لكنهم ليسوا جزءاً من مشكلاته أو يجب أن لا يكونوا كذلك كي لا يدفعوا الثمن غالياً كما فعلوا دائماً.
وكان يجب أن يعرف مسيحيو لبنان، أن العطل البنيوي في لبنان موجود منذ استقلاله، وأن يتصرفوا تبعاً لذلك بعدما أقامت فرنسا المنتدبة دولته وسلمتهم إياها باعتبارهم غالبية وإن بنسبة ضئيلة، أي كان عليهم إشراك المسلمين على تنوّعهم في الدولة بالتساوي لجعل انتمائهم اللبناني قوياً ومكملاً للانتماء العربي الذي كانوا يفضّلونه، وللتعاون معهم من أجل بناء دولة عيِّيشة ومستقرة ومستمرة. لكنهم لم يفعلوا. وكان يجب أن يعرفوا أيضاً أن الاستنجاد بالخارج للحماية ليس مفيداً، لأنه ينقلب ضدّهم إذا تضاربت المصالح. وقد حصل ذلك.
وكان يجب أن يعرف مسلمو لبنان وتحديداً منذ هزيمة 1967 أن تخريب لبنان ودولته وإن ظالمة في حقهم من أجل قضية فلسطين مُضر لهم ولكل أبنائه. وكان يجب أن يعرفوا أيضاً أن تحريض الفلسطينيين لهم ومساعدتهم لتحقيق المطالب ومعها الهدف القومي الأسمى (تحرير فلسطين)، ولاحقاً أن تحريض سوريا الأسد للفلسطينيين ولهم على الدولة كان هدفه "فرطها" والسيطرة على البلاد. وحصل ذلك. لكن الأسد الراحل كان أذكى من الفلسطينيين إذ سخّرهم لهدفه وهو السيطرة عليهم وعلى لبنان، وإذا تعذّر ذلك فعلى لبنان من دون بقائهم أقوياء فيه. وكان يجب أن يعرفوا قبل ذلك وبعده أن الحوار هو أفضل السبل لتحقيق المطالب سواء كانت إزالة غبنٍ أو قضاء على الخوف.
وكان يجب أن يعرف دروز لبنان، وهذا أمر يجب أن يعرفوه اليوم مع المسيحيين، أنهم صاروا أقلية، وأن وجودهم في لبنان ودورهم في سياسته وحكمه لن يستمرّا إلاّ إذا قرّروا أن يكونوا صلة الوصل بين سنته وشيعته المتقاتلين في الداخل سياسياً والمتعاطف كل منهما مع "جماعته" في سوريا بل في المنطقة. أي أن يحققوا التوازن العادل بين هذين المكوِّنين في إطار دولة مساواة جدّية وعادلة.
وكان يجب على اللبنانيين أن يعرفوا، وعليهم أن يعرفوا اليوم وغداً وبعد غدٍ، أن لا فئة واحدة منهم تستطيع أن تحكم الفئات الأخرى إلاّ بالقوة العسكرية إذا وفّرها لها خارج قوي. لكن حكماً كهذا لا يدوم. وليراجع تاريخ لبنان كل من لا يصدِّق ذلك.
وكان يجب أن يعرفوا، وعليهم أن يعرفوا اليوم أن حكم أقليات أو تحالف أقليات، سواء في لبنان أو في أي كيان آخر، لا يدوم وأن نهايته لا يمكن أن تكون إلا دموية. كما أن انقسام الأقليات بين فريقين قويين وقيامها بتحريضهما على بعض ستدفع ثمنه لاحقاً.
لماذا هذا الكلام الآن؟
لأن الخطر الدائم على لبنان يتزايد هذه الأيام. ولأن التسويات الموقتة هي التي تمكِّنه من تحمُّل النكسات الأمنية الإرهابية وغيرها. في حين أن الإصرار على الحسم وعلى الربح الفئوي سيجعل لبنان مثل سوريا اليوم.