وضعت أحمر الشّفاه بتأنّ، أمّا هو فحمل الاطباق السّاخنة بتأن أكبر...
تدثّرت بعطره المفضّل، قبّلت أمّها مُتمنّية لها ليلة سعيدة، "لا تنتظريني كالعادة، فاللّيلة ستكون مميّزة وسأتأخّر، أشعر بأنه سيفاجئني بطلب يدي يا ماما! زلّة لسانه قبل يومين فضحته". ابتسمت، لوّحت بيدها مودّعة، أقفلت الباب بهدوء، ومضت... "ماريا".
وضّب الاطباق السّاخنة داخل علبة على دراجته الناريّة، اعتمر خوذة الحماية على رأسه... ومضى... "محمود".


"الموت" هو ما جمع، "ماريا" و"محمود"، لا الطائفة، ولا البلد ولا الانتماء، ولا المكان، ولا الزمان كانت مشتركة بينهما...
على وقع أغنية "كيس ذي ديفيل" (Kiss The Devil)، داخل مسرح باتاكلان، قبّلت ماريا حبيبها، قبلة تختلف عن بقية القبلات، قبلة وصفت بـ "الابدية"... لا بل بـ "التاريخية"، أو حتى أكثر بالـ" سحريّة"!
قبلة بدّلت مقاييس فرنسا، أوقفت عقارب ساعتها، جمّدت الزمن، لوّنته بدماء حمراء، تماماً كلون أحمر الشفاه الذي تأنت ماريا في وضعه تلك العشيّة...
عينا ماريا اُغمضتا في تلك اللحظات تلقائيا لكثرة الاندماج، ما جنّبهما مواجهة "وجوه مريضة" تقتل باسم الله، وتبيد الابرياء، لاشباع غرائزها الحيوانيّة، فتشعر مع كلّ نقطة دم طاهرة بـ"نشوة" الانتصار الشيطاني...


في المقلب الآخر من مشهد الموت، كان محمود جواد...
قرار بسيط غيّر مسار هذا الشّاب، فالتبديل بينه وبين زميله في طلبيّة "ديليفيري" من منطقة الغبيري الى منطقته برج البراجنة، كان كفيلاً بفعل فعلته...
"اغتنمتُ فرصة التبديل مع زميلي، لآخذ بركتك يا ماما، وأخطف قبلة من وجنتيك وأرى وجهك الجميل ولو لدقائق...".
قبلة أبت ان تنتهي من دون دويّ هائل يُثقب آذان سامعيه، ويُزلزل الاقدام التي فقدت قوتها مع عويل الامهات وبكاء الاطفال، وأنين المتألمين.
إلا ان ساقَي "حودا" كما ينادونه، شُحنتا بالطاقة، واشتدّت عزيمتهما، طالما انهما قادرتان على انتشال الجرحى... فركضتا بخطوات ثابتة نحو مسرح المأساة...
وحينها، كانت الكلمة الاخيرة لذلك "القاتل" الذي وضع حداً لحياة شخصين لا يزالان في طور الشباب وعز الأحلام وخضمّ الطموحات...


ما جمع ماريا الفرنسية و"حودا" اللبناني هو "الارهاب" الاعمى الذي تفوّق على حبّهما للحياة، وجعلهما يسبحان في برك من الدماء. ما جمعهما هو ذاك القدر المشؤوم، الذي يأخذ من يريد، ويعطي متى يشاء... أما التالي على لائحته فمن يعلم من يكون، ربّما انت، انا، هو، هي... جميعنا "ضحايا" أمواتٌ كنّا أو أحياءَ، ضحايا منطق القتل العشوائي وزهق الأرواح المجاني. ضحايا الليل الموحش الطويل الذي لا بد لكي نستمرّ أن نتمسك بأنه سينجلي يوماً لتشرق شمس الحياة من جديد... "يوماً ما".