كثيرون تبادلوا نظرات التعجّب والاستفهام لدى سماعهم كلاماً تصالحياً بلسان الأمين العام لـ"حزب الله"، وفي خطاب ثانٍ على التوالي. أحبوا أن يصدّقوا، لم يدروا ما اذا كان بإمكانهم أن يصدّقوا، فهذا كلام لم يعد يشبه قائله منذ زمن، فضلاً عن أنه جاء بلا مقدّمات جوهرية، وليس مضموناً أنه مبني على مراجعة عميقة داخل "الحزب" سواء لخياراته الداخلية أو لأدواره الخارجية اذا افترضنا أنه يحددها بمعزل عن الأجندة الايرانية.
لا شك في أن "التغيير" في النَفَس واللغة واللهجة لدى السيد حسن نصرالله، يُعزى الى التفجير الارهابي في برج البراجنة، وما عقبه من استنكار بديهي، ومن تضامن سياسي ومجتمعي. غير أن هذا التفجير لم يكن الأول من نوعه في الضاحية، كما أن مواقف "الخصوم" لم تكن مختلفة هذه المرّة. ففي مرّتين سابقتين اتخذ نصرالله من المأساة منبراً لمزيد من التحدي لـ"الفريق الآخر" الذي تضامن مع الناس الذين أُخذُوا رهينة وقضوا ضحية تورّط "حزب الله" في سوريا، ولا يزال رافضاً مشاركة "الحزب" في قتل السوريين. واذا كان نصرالله يقدّم الآن عروض "التهدئة"، درءاً لمخاطر "الفتنة"، فإنه استهزأ سابقاً بل لوّح بها لتخويف كل من يطالب بضبط سلاحه غير الشرعي.
في أي حال، تبدو دعوة زعيم "8 آذار" الى "لملمة بلدنا ومعالجة مشاكلنا وتحصين أمننا" وكأنها تقرأ من خطاب دأب فريق "14 آذار" على تكراره طوال أعوام. واذا كان ثمة مجال لتحليل المواقف والسياسات، من دون خرق "المناخ الايجابي"، فلا بدّ من التصارح بأن قتال "حزب الله" في سوريا هو ما استدعى "داعش" و"النصرة" الى لبنان، وأن المواجهة الداخلية المبكرة للارهاب وقعت على عاتق الفريق الذي استعداه نصرالله في خطبه وسياساته وذهب بعيداً في اهانته واستفزازه.
لكن المهم الآن ترجمة الأقوال بالأفعال، والبداية تكون بتوضيح عاجل لما قصده نصرالله بـ"تسوية وطنية شاملة"، وأيضاً بتأكيد نية الاعتماد على تفاهم اللبنانيين "من دون انتظار الخارج"، وقد ظهر جلياً أن انتظار ايران ومشاريعها الاقليمية قاد الى تعطيل الدولة والحكومة وتعرّض لمؤسسة الجيش، أما انتظار السعودية فلم يبدُ يوماً معطّلاً لانتخاب رئيس أو معوّقاً لعمل الحكومة ودور المجلس النيابي.
عدا درء الفتنة، كذريعة ظرفية أو كهدف نبيل، قد تكون في خلفية "صحوة" نصرالله هذه قراءة أكثر واقعية لمرحلة مقبلة تتضمّن "العودة" من سوريا. ففي أسوأ الأحوال وأفضلها لم يعد بقاء بشار الاسد خياراً مجدياً لايران ولا لروسيا اذا كانتا تبحثان فعلاً عن حل سياسي في اطار "مجموعة فيينا". وخلافاً للتوقعات أدّت هجمات باريس الى مزيد من الربط بين الاسد و"داعش" وبين مصيريهما. ولذلك بات الاصرار على "المرشح الأوحد" للرئاسة، ليكون متناغماً مع الاسد الباقي في السلطة، خياراً لاعقلانياً بالمرّة.