حجبت عبوات الإرهاب في برج البراجنة، ومن بعدها الإرهاب الذي ضرب باريس، أهميّة ما يحدث على النطاق السياسيّ في لبنان، وأظهرته سخيفاً وتافهاً. إلاّ أنّ هذا لا يلغي ضرورة التوقّف عند تفاهته التي هي أيضاً قاتلة بالتقسيط وبكثير من الصمت.


فقد بدا للبعض، في 2005، أنّ الطائفيّة "زالت"، أو أنّها في طريق "الزوال". وكان هذا استنتاجاً متسرّعاً بطبيعة الحال أملاه، فضلاً عن التفكير الرغبويّ، الواقع الظاهريّ العابر للطوائف لـ 14 آذار.


بعد حين، ومع "التفاهم" بين "حزب الله" و"التيّار الوطنيّ الحرّ" ظهرت أصوات من الموقع الآخر تقول بدورها إنّ الطائفيّة تراجعت وانكمشت كثيراً.


وكان "التحالف الرباعيّ" بمثابة صدمة لهذه التقديرات المتفائلة، بل الساذجة. ثمّ أتت حرب تمّوز 2006 ارتداداً على أدنى محاولة لرفع أجندة سياسيّة مختلفة عن "المنطق" القديم الذي يحكم السياسة اللبنانيّة واصطفافاتها وقضاياها الطائفيّة. بعد ذاك جاءت الرعشة التي أحدثها "القانون الأرثوذكسيّ"، فضلاً عن خلاف عابر هنا وسوء تفاهم هناك، ليتبيّن من أيّ صخر قُدّت هذه الطائفيّة.


وعندما ظهر "الحراك" المدنيّ قبل أشهر، لوحظ أنّ انعطافاً عن ثنائيّة 8 و14 آذار قد جدّ، بيد أنّه انعطاف أضعف من أن يؤسّس قواعد صلبة لبدائل وانتماءات.


بكلام آخر، لم تضعف الطوائف وطائفيّتها، حتّى في الأوقات التي بدا فيها ظاهريّاً أنّها تضعف، وأنّ هناك احتمالات لاستبدالها. وما لم يستطع الوضع اللبنانيّ أن يفعله، أنجده به الوضع العربيّ المحيط، لا سيّما مع انقلاب ثورات "الربيع" إلى حروب أهليّة وتدمير مصحوب بالتذرّر. فقد ظهرت هويّات ما دون الدولة، بما فيها الميكروسكوبي منها، نافرة ساطعة تحمل مطالبها ومشاريعها، وتتغنّى برموزها وطقوسها، وطبعاً بظلاماتها...


والآن يتشكّل اصطفاف لا يترك للأوهام والنوايا الحسنة مكاناً، ولا تفعل التسوية الأخيرة غير إبطاء مفاعيله. فإذ يتقارب نبيه برّي وسعد الحريري وحسن نصر الله ووليد جنبلاط، فيما يتقارب في المقابل ميشال عون وسمير جعجع وسامي الجميّل، تعاود الخريطة القديمة للانقسام رسم نفسها: مسيحيّون في مقابل مسلمين، من دون أن يكون أيّ من الطرفين موحّداً بطبيعة الحال.


ولقائل شكّاك تمكّن منه اليأس بفعل معاينة الحياة اللبنانيّة، أو الاكتواء بنارها، أن يقول إنّ كلّ الظاهرات غير الطائفيّة في هذا البلد إن هي إلاّ ظاهرات طائفيّة مقنّعة ومموّهة. فالعبور الوحيد الممكن هو دوماً إلى المربّع الطائفيّ الأوّل، وذلك في دوران قد يبتعد عن نقطة الانطلاق إلاّ أنّه عائد حتماً إليها. وهذا ما يملي على أيّ تفكير بالمستقبل الجمع بين السياسات والتغيير من جهة والاجتماع الوطنيّ ونسيجه المهلهل من جهة أخرى.


فما لا مماراة فيه أنّ الانتماء الطائفيّ هو العنصر الأوّل والأساس لبناء الهويّة في لبنان، وما لا مماراة فيه أيضاً أنّ هذه الهويّة التي يبنيها الانتماء الطائفيّ سامّة، لا مكان فيها للتعدّد وثرائه إلاّ في الإنشاء والزجل...


إنّ الطائفيّة لم تعد، لأنّها ببساطة لم تذهب. وفي وضع كهذا يمكن دوماً للإرهاب أن يزدهر...