بات من الملح والضروري الحديث عن ثقافة التسامح وقبول الآخر مهما كان الآخر مختلفا معنا , في ظل ما نراه من تنابذ وتفرقة وعداوة وتشنّج , ليس فقط مع المختلف فحسب , بل مع المتفق في بعض الجزئيات والمختلف ببعضها الآخر , مما أدّى بالحال الراهن  إلى العنف والعنف المقابل , ولا ندري إلى أين تصل الامور إذا ما بقيت الظروف والمعطيات على حالها .

   إن ثقافة التسامح وقبول الآخر  بالاصل هي قيمة إنسانية , وحاجتها أساسية في تنظيم العلاقات الانسانية , لذا يجب التأكيد عليها ببرامج توعية تثقيفية , من أجل تأسيسها وتأصيلها  في نفوس وعقول الاجيال بطريقة صحيحة وبشكلٍ إيجابي مُنتج , من أجل إعداد جيلٍ واعٍ قادر على تحمّل المسؤولية وأعباء الحياة كاملة وفي ترسيخ الوحدة الوطنية بشكل خاص , والتعاون على ترسيخ الثقة لإبعاد الهواجس عند المكونات الاجتماعية والسياسية  كافة , ومما لا شك فيه أن هذه الثقافة  تساهم في خلق أجواء التقارب التي هي بداية معرفة الآخر , لأن "ألإنسان عدو ما يجهل" , والجهل بحقيقة الآخر سبب في رفضه والابتعاد عنه , نلاحظ  مثلا : أن القرآن الكريم جعل التعارف أساسا في العلاقات السليمة والطبيعية بين الناس ,  وغاية من غايات الخلق التي يتبعها غاية أعلى وهي الوصول إلى المحبة والتسامح التي هي غاية غايات الانسانية وهي من صفات ألاتقياء المكرمين , " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " سورة الحجرات آية 13 .

نلاحظ أن الآية الكريمة وجّهت خطابها بكلمة " الناس " ولم تخصص الخطاب بالمسلمين أو المؤمنين , والناس لفظ عام ,  يعني أن التعارف ينبغي أن يكون بين جميع الناس بدون ألإلتفات إلى دينهم أو عرقهم أو أي إنتماء آخر , التعارف بينهم بما هم ناس ,من حيث كونهم بشر تجمع بينهم الانسانية , هذا أول هدف من الخلق حسب الآية , ومن ثمّ  رتّب الله تعالى  على هذا التعارف تكريما , ومن الطبيعي أن التكريم من الله يكون للعمل الناجح والصالح , والعمل الناجح حددته ووصفته الآية بالتقوى ( والاتقياء مُتحابّون كما جاء الخبر النبوي ) , التي يعلمها الله الخبير بالباطن والظاهر .

ولا يتحقق التسامح وقبول الآخر، إلا بالتعارف , ولا ينجح التواصل والتعاون إلا بالمعرفة ،  والمشاركة الحقيقية في بلورة الافكار  وإقامة حوار بناء يكون أقوى بالتعارف والمعرفة ، وخلق فضاء للنقد الحر  والفكر المستقل يساعد المجتمع على إرساء حالة من الاستقرار والسلام والتعايش مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه .

فالحوار والتعارف ومن ثم التواصل على قاعدة الإعتراف بالرأي الاخر  , وعدم فرض الرأي بالقوة والعنف كفيل بحل كافة القضايا المُختلف عليها , وبذلك نحافظ على وحدة المجتمع وقوته في مواجهة الاخطار على كافة الصُعد , لأن المجتمع المتجانس ثقافيا قادر على الصمود والتقدم , حيث يشعر الفرد فيه أنه ينتمي للجماعة , وهذا الشعور بالإنتماء الحقيقي  يُذيب المصالح الشخصية في ضمن الصالح العام  .