كان اللبنانيون في الماضي يتمنّون علناً تدخُّل جيشهم كلَّما مرّوا بأزمة مستعصية على الحلّ أو بمشكلة بالغة التأزُّم، وكلَّما وقعوا في حرب داخلية أو شعروا أنهم سينزلقون إليها أو انزلقوا إليها فعلاً. لكن تمنياتهم خابت بين عام نشوء عوامل الحرب الأهلية وغير الأهلية في بلادهم وهو 1969 وعام اندلاع هذه الحرب وهو 1975 وما بعدها. إذ خاض مسلموهم ومسيحيوهم حرباً ضروساً في ما بينهم بداعي الخوف من طغيان العدد على النظام اللبناني والرغبة في إزالة الغبن وتأمين مشاركة حقيقية داخل السلطة. وبدلاً من أن يلبّي الجيش دعوة الناس له لوقف الحرب انقسم على نفسه مثلهم أي طائفياً، وشارك في حربهم مدمِّراً معهم نظام لبنان ومؤسساته ودولته، و"داقّاً" في نعش الكيان والعيش المشترك أول مسمار فعلي. وما كان للحرب أن تتوقّف لولا توافر عوامل عربية ودولية ملائمة ومصالح خارجية متلاقية. طبعاً لم يتعلَّم اللبنانيون أي درس منها، فنسوا في سرعة أن سببها انقسامهم الطائفي، وأجمعوا على أن محرِّكها الخارج. وراجت على ألسنتهم مقولة حرب الآخرين على أرض بلادهم وصدّقوها، واستأنفوا مسيرة التكاذب جاهلين أو متجاهلين أن الخارج الذي أدار حربهم واستعملهم أداة لها ووقوداً، وهو هنا سوريا والفلسطينيون وإسرائيل، ما كان لينجح في ذلك لو كانوا موحّدين.
وبدلاً من أن يستفيدوا من توقُّف الحرب العسكرية عام 1990 لإنهاء الحرب السياسية – الطائفية أضافوا لها ضلعاً جديداً هو المذهبية بين المسلمين التي كانت نائمة من زمان. إذ أيقظها من سباتها العميق نظام شقيق كُلِّف من العرب أجمعين والمجتمع الدولي مساعدة لبنان على تطبيق اتفاقهم في الطائف، وعلى إعادة بناء دولتهم ومؤسساتهم واستقرارهم. فأيقظ معها الفتنة... أجَّج ذلك الوضع السياسي – الطائفي – المذهبي، وأعاد قسمة البلاد نصفين واحد مع سوريا وآخر ضدها. وساهم في تأجيجه تطوُّر مهم وخطير ذو تأثير واسع إقليمياً ودولياً هو قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي يشكِّل الشيعة غالبية مهمة جداً من أبنائها. وتحوَّل الانقسام حرباً غير عسكرية تخللتها اغتيالات واصطفافاً مذهبياً حادّاً يوم فرض المجتمع الدولي بدعم من المجتمع العربي انسحاب سوريا عسكرياً من لبنان. ولا يزالون يعيشون هذا الانقسام الحاد حتى الآن علماً أنه أوقفهم على حافة الحرب الفعلية، ولا يزالون عليها واقفين. وبطبيعة الحال أثّر هذا الواقع على الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية وعلى أدائها. لكنه لم يؤدِ إلى انقسامها رسمياً على الأقل حتى الآن، ربما لأن الصراعات الإقليمية الصعبة والخطيرة والصراعات الدولية لم تصل إلى خواتيمها بعد وخصوصاً في العراق وسوريا، ولأن نهاية الصراع اللبناني الداخلي لن تُحسم في اتجاه أو آخر إلاّ بعد حسم الصراعات الأكبر المذكورة.
طبعاً حلّ الشلل مكان الانقسام الرسمي أو سبقه. علماً أنه أكثر خطورة منه. ذلك أنه يشبه الموت السريري أو بالأحرى الغيبوبة العميقة (الكوما). في حين أن الانقسام ربما يُنتِج مؤسسات متقاتلة ولكن فاعلة ومُتقاتِلة. وهذه حال يتذمّر منها اللبنانيون اليوم. فالنفايات تغطّي شوارع مدنهم وقراهم وجبالهم والسهول. وحكومتهم قائمة ولكن لا حياة فيها. ومجلسهم النيابي معطَّل. ومجتمعهم المدني الذي تحرّك متأخراً كان بلا خطة عمل وبلا أهداف واضحة وبلا تجربة وخبرة وتسبّب ذلك بأمرين. الأول صعود البخار إلى "رأسه" إذ اعتبر الآلاف الذين نزلوا إلى الشارع تشجيعاً له وأعضاء "في حزبه"، ونسي أن التأثير العميق للطائفية والمذهبية والعشائرية لا يسهل إنهاؤه وخصوصاً في مرحلة حرب كالتي تعيشها المنطقة. والثاني سماحه للذين فشلوا في تنفيذ سياساتهم "الإصلاحية" في السابق القريب أو البعيد، ولأصحاب المشروعات الجديدة باستغلال تحرّكه وربما بمحاولة فرض وصاية عليه. أما الجيش الذي يعوِّل عليه اللبنانيون اليوم لحمايتهم فإنه يقوم بواجبه على الحدود مع إرهاب إسرائيل وعلى الحدود مع إرهاب الإسلاميين المتطرِّفين، ويحاول قدر الإمكان مؤازرة القوى والأجهزة الأمنية الأخرى في الداخل. ورغم ذلك أصابته نتائج الموت السريري للمؤسسات والموت الأخلاقي للغالبية المهمة من "الطقم السياسي" فكاد جنوده وضباطه أن يُحرموا رواتبهم. هذا الواقع الصعب دفع لبنانيين كثيرين إلى تمنّي "تدخُّله" لوضع حد لكل ذلك.
هل تمنّيهم في محله؟ وهل الجيش قادر؟ وماذا يجري فعلاً داخل لبنان حالياً؟ ولماذا تُعطَّل المؤسسات؟ ومن يُعطِّلها؟